شارف عام 2023 على الانتهاء. عام مليء بالغليان والتوترات وشلالات الدماء. ولعل أبرز سمات عالمنا الحديث، التبدل والتطور بوتيرة متسارعة، بدءًا بالثورات والانقلابات في دول الساحل الافريقي، مروراً بتوسيع عضوية "بريكس" وترسيخ دورها على الساحة الدولية، فضلاً عن إعلان إطلاق مشروع الخط التجاري الهندي (I2U2) الذي ينطلق من الهند مروراً باسرائيل ليبلغ وجهته الأخيرة في الولايات المتحدة، وصولاً إلى "مسك الختام"، حدث العام دون منازع في فلسطين المحتلة، وحرب الابادة التي شنتها إسرائيل وحلفاؤها الغربيون والتي شغلت العالم وخطفت الأضواء.
نوايا ليست "شريفة"
تمثلت انطلاقة أحداث 2023 بالانقلابات المتتالية في القارة السمراء، الرامية إلى التخلص من النفوذ الفرنسي ومن ورائه الغربي بشكل عام، إلى جانب طرد القوات الاجنبية الغريبة المتجذرة في الأراضي الافريقية منذ أكثر من قرن، بحجة تختلف من عقد لآخر وكان آخرها محاربة الارهاب... مشهد مضحك مبك لا يدعو سوى إلى السخرية، اذ إن خروج القوات الفرنسية من مالي وطرد السفير الفرنسي من بوركينا فاسو، والنيجر وغيرها، قوبل بدخول قوات أجنبية أخرى وهي قوات فرقة "فاغنر" الروسية، والتي دون أدنى شك نواياها ليست "شريفة" اطلاقاً تجاه الشعب الافريقي وموارده الطبيعية. ويمكن وضع ما حدث في افريقيا في النصف الاول من العام في خانة التناحر الدولي على السلطة والنفوذ.
ووسط كل المحاولات الأميركية لتثبيت الوضع بالحد الادنى بانتظار أيام أفضل بالنسبة إلى دول الاتحاد الاوروبي وفرنسا، التي يمعن ماكرون بجرّها إلى مستنقع الوحول دون أن يتمكن من انتشالها، إلا أن المستنقع الذي يحاول الغرب إغراق الروس والصينيين فيه، لم يكن بالعمق المرجو، بحيث التوغل الصيني والروسي يبدو ناجحًا لهذه اللحظة في افريقيا محققًا نتائج مبهرة بالنسبة للحليفين.
صفعة ثنائية الأبعاد
بعد نجاح التوغل الصيني المحدود جغرافياً في افريقيا، ونشر روسيا قوات لها في بعض الدول غربي القارة، مطيحة بذلك الفرنسيين عن عرشهم التاريخي، كان لابد للولايات المتحدة الاميركية ان تحضر رداً مناسباً، نظراً لعجز "العجوز الأوروبي" على الانتقام واسترداد ما سلبه اياه القيصر. فقد عملت أميركا على توجيه صفعة ثنائية الأبعاد لروسيا والصين، ولعل أهم خطوة قامت بها هي الاعلان عن مشروع خط (I2U2) التجاري الجديد المضاد لمشروع طريق الحرير الصيني. إلا أن الضربة المبطنة في المشروع الأميركي كانت مشاركة الإمارات العربية، العضو المدعو حديثاً لمجموعة "بريكس"، كرسالة تحذير واضحة للعملاقين روسيا والصين، بأن حليفتهما هي حليفتها أيضاً، بمعنى أن لأميركا حليفٌ صلب داخل "بريكس".
إذا رأيت أنياب "الدب" بارزة فلا تظنن أن "الدب" يبتسم
يمكن القول إن "الصفعة الثنائية الأبعاد" دغدغت "التنين" الصيني و"الدب" الروسي، بحيث عمد بوتين إلى رد الصاع صاعين، ولكن هذه المرة، تمكن من ليّ الذراع الأميركية، حيث مس بإسرائيل، نقطة ضعفها وطفلتها المدللة. قد يستغرب البعض عند الوهلة الأولى، ولكن هناك معطيات عدة تجعلنا نوجه الأصابع باتجاه "الدب" الروسي. ولعلّ الدليل الصارخ هو تسلّح الفصائل الفلسطينية بأسلحة خفيفة ومتوسطة، أميركية وأوروبية الصنع وفق ما أوردته تقارير صحفية عدة، حيث يُعتقد أنها عائدة لشحنات الأسلحة التي من المفترض أن تصل للجيش الأوكراني إلا أن الجيش الروسي صادرها. ويعمل بوتين على تسليح كتائب القسام والفصائل الأخرى بأقل كلفة ممكنة لمواجهة إسرائيل ومن ورائها أميركا، فيما يبدو أن روسيا حريصة أكثر على علاقاتها مع إيران التي تقف خلف حماس، أكثر من حرصها على إسرائيل التي تمد أوكرانيا بالسلاح والعتاد والدعم المعنوي والسياسي والإعلامي. غير أنه لم يبد أن التفاهم الروسي الإسرائيلي أصابه أي عطب في سوريا، ولكنه بحال اتساع رقعة المواجهة يمكن أن يجعل هذا التفاهم في خطر.
نظام عالمي متعدد الاقطاب.. من يدفع ثمنه؟
إن التجاذب السياسي على الصعيد الدولي، جعل بعض الدول الخائفة من خسارة ما حققته من بسط نفوذ وسيطرة على أنظمة أخرى، تتصرّف بجنون، بقلة وعي، تحاول أن تهرب من واقع محتّم، أنها ليست المسيطر الأكبر في المشهد العالمي. فالتصرف الأميركي بافتعال حرب أوكرانيا وفقاً لقاعدة "إن لم أكن الأقوى، أُضعف غيري ومَن حولي"، ثبتت بالفعل بحيث تشرذمت القوة السياسية الدولية، وتكشفت نوايا العديد من الدول في تولي دور قيادي.
لطالما علت الأصوات المنادية بنظام متعدد اللأقطاب جديد للعالم، نظام أقل ظلماً وأكثر عدلاً، وقوامه تقاسم القوة وليس احتكارها... وفي المنطق العام وليس في عالم الجيوسياسة وحسب، هناك ثمن لكل شيء. بما لا ريب فيه أن مبدأ تقاسم القوة ومشاركتها، مبدأ جميل جداً على "الورقة والقلم"، ولكن الواقع عكس حقيقة ثمن هذا النظام الجديد. نظام، تزهق الأرواح فيه للمحافظة على حسن سير عمله، نظام يرتوي من دماء الأبرياء، يذهب النساء والأطفال والشيوخ كبش فداء في حرب الكبار، فلا قيمة للحياة البشرية.
ما من كلام قادرٌ على التعبير عن مدى السؤم من دفع أثمان حروب غالباً ما تكون حروب الغير، والخداع بأنها قضيتنا، ندافع عن أيديولوجيات وعقائد سلّمنا لها دون مناقشتها... وهمٌ نعيشه "هم ونحن"، غافلين أن "هم" بشر أيضاً يدفعون نفس الأثمان التي ندفعها، ويدافعون عن عقيدة ما، فرضت عليهم نتيجة غسل الأدمغة والدعاية الإعلامية وسلّمو لها دون مناقشتها.
لقد شارف العام الثالث والعشرون من القرن الحادي والعشرين على الانتهاء. أيام قليلة تفصلنا عن العام العتيد، وضبابية المشهد لا تتيح المجال للتفاؤل بما هو قادم، ففي عالم يشكل التحول والتطور أبرز سماته، لا بد من إضافة سمة وهي "الوحشية"، "الوحشية" في نظام شهد تطورات كثيرة إلا أن شيء واحد لم يتغير، القتل والعطش إلى الدماء...