النقيب السابق للمحامين في طرابلس، الوزير السابق رشيد درباس
غادر ممثلو الدول شرفات القاعة النيابية، بعد أن خرج المجلس من إخفاقه المتمادي، وتوصل إلى إهداء الشعب اللبناني قسمًا واضحًا كصاحبه، لا لبس، لا تورية ولا تردد.
بعد هذا، تلوح في الأفق بوادر تشير إلى أن الدول خلعت عنها دور المتفرج على فيلمنا الممل الطويل، وشدَّت السعي إلى المشاركة في ورشة الإنقاذ المعقدة والصعبة والمتنوعة.
فبعيد الانتخاب، توافد رؤساء ومندوبون ووزراء خارجية، وتدفق الأشقاء، فصار العبوس فرحانًا، واليائس آملًا، وكل في البشرى عائمون.
ربما كان تكليف نواف، بالصورة التي حدثت، والكثافة اللافتة، مؤشرًا على أن الأمور انقشعت إلى الصفاء بعد ضباب، وأن تكيفًا حميدًا حل بالحضرة السياسية، لاستلحاق حالها، والانسجام مع توجهات الرئاسة، والطموح الشعبي الذي رأى في استدعاء رئيس محكمة العدل الدولية من قصر السلام إلى القصر الحكومي بشائر انتقال إلى الدولة العصرية الحديثة.
من حق المتفائلين ان يتفاءلوا لأن مثل الدولة اللبنانية كان كمثل شخص صحيح البنية ألزموه الفراش، وكبلوا رجليه بالترهيب، وقيدوا رسغيه بقتل الفرص، ووضعوا على صدره جرنًا من الحجر واعدين إياه بوجبة من الكبة لم يذقها أبدأ، ثم ثبتوا نواظره على شاشة واحدة وبرنامج واحد، وأقفلوا بعد هذا شبابيك النور والهواء عن عقله، وبقي على هذه الحال طوال زمجرة الأسدين، واستعراضات القوة، ودورات الإجرام الصهيونية وأحاديث العفة والنزاهة في دكاكين سوق النخاسين المجاور لسوق النحاسين، حيث تصم أصوات طرق النحاس آذان الناس عن الخطاب التافه والممل.
الذي حدث، انه وفي لحظة رآها بعضنا أنها عجائبية توقف التلفزيون الرديء عن بثه الرديء، واختفت الزمجرة الأسدية، وحل محلها أسد (مترو غولدن ماير) وَفُكَّت القيود، وانزاح جرن الكبة عن الصدر، وانفتحت النوافذ ليدخل النور والهواء إلى النفس المعتمة. لكن لا يظنن أحد أن المريض الافتراضي سينهض فورًا ويمارس وظائفه المعطلة، لأنه يحتاج أولًا لفك قيده الروحي، حيث يجب أن يصدق أن هذه الأمور السعيدة قد حدثت فعلًا، فالجناح المعتقل لن يطير قبل فترة نقاهة من أسره الظالم.
ربما أيضًا سَيُعرِّضون الرئيس المكلف لحفلة ابتزاز وتخويف وتلويح بتهم مستهلكة من قاموسهم المتسهلك، ولكنني أظن - وبعض الظن خير- أن القاضي التنكوقراطي القادم من محفل العدالة الدولية، الساكن في نيويورك وباريس ولاهاي فترات طويلة، سيخيبهم بما سيبديه من شدة مراس؛ فهو قبل تلك المدن الراقية، عاش في المصيطبة، وترعرع في زواريب بيروت، وخاض المظاهرات في شوارعها، وطلب العلم في جامعاتها، ومارس المحاماة في نقابتها وأمام محاكمها، وأضاف لآل سلام وجهًا آخر همشريًا (إذ صح التعبير)، فهو ابن الأرومة، وربيب الأفكار الملهمة، والمؤلف في السياسة، بالحنكة ذاتها التي ألف فيها قرار محكمة العدل الدولية تجاه اسرائيل.
أظن أيضًا- ولا خيب الله ظني- أن الرجل ذو التجربة الغنية والمعقدة، سيتكامل مع الرجل القادم من الميدان، لإنجاز مشروع في غاية البساطة عنوانه الاصلاح والتنمية.
أيها الاصدقاء
سمعت الرئيس فؤاد السنيورة يقول إنه في العام 1994، زار سنغافورة واجتمع بوزير المال الذي أنبأه انه في العام 1964، زار لبنان للاطلاع على نموذج تسعى بلاده للتمثل به. وأضاف الرئيس، إن الاقتصاد السنغافوري كان قائمًا على الغزل والنسيج، فلما أصبحت هذه الحرفة غير تنافسية تحول إلى النمط الانتاجي المعلوماتي فأحرز بهذا سبقًا كبيرًا بحيث أصبح متوسط دخل الفرد من اعلى المستويات في العالم. وأردف لم يكن (لي كوان يو) لينجز المعجزة السنغافورية إلا لأنه استطاع أن يفرض الاصلاح ويمارس الابتكار ويعمم التنمية.
أيها الأعزاء...
نحن نعلم ان بنانا التحتية مدمرة، ولكن أحدًا لم يستطع ان يدمر بنانا الفوقية، وهذا أمر كفيل بالإسراع باستعادة تكوين الدولة، وتثبيت ركائزها المادية، إذا ما تمكن العقل العام التطهر من جرثومة الهيمنات المتوطنة. قرات بالأمس مقالًا للصديق رفيق خوري يشير إلى أن أنظمة الاستبداد تحاول إلغاء الحقائق من أجل تأكيد الشعار، في حين ان العلم السياسي يقول: "إن الشعار سحابة في مرحلة، اما الحياة فتستهلك ملايين الشعارات، كما تبتلع اللعنة أفواج المستبدين".