الشاعر هنري زغيب
تكاد لم تبقَ دولة صديقةٌ في العالم إِلا ارتجَّت في سلطتها وشعبها أَصداءُ انفجار مرفإِ بيروت.
بينها ما تناولَت عَلَمَ لبنان بِــلَونَيه الجميلَين وأَرزتِه الرائعة وبَــثَّــتْــه مُكَبَّرًا على إِحدى راياتها العاليات، وبينها ما بادرَت إِلى إِرسال مساعدات عينية إِلى جمعيات المجتمع الأَهلي اللبناني، وبينها ما جاء منها رئيسٌ أَو وزراءُ أَو مسؤُولون رفيعون زاروا مواقع الانفجار الحارَّة قبل أَن يَزوروا قصور المسؤُولين الباردة.
هكذا، وإِن لسببٍ فاجع، هزَّ لبنانُ معظم دُوَل الأَرض فالتفتَتْ إِليه لتقديرها إِياه دَورًا مفصليًّا وقيمةً حضاريةً وإِنسانًا لبنانيًّا جديرًا بالتقدير.
فرادةُ لبنان التي اهتزَّ لها أَركان الدول، هي هذه بالضبط، لا جغرافيا لبنان (وهي مساحة إِقليم صغير من تلك الدول)، ولا ديموغرافيا لبنان (وهي سكان مقاطعة صغيرة في تلك الدول)، ولا لثروات لبنان الطبيعية (وهي وفيرة لديها نفطًا وحبوبًا ومعادن ثمينة نادرة).
إِذًا أَيُّ لبنانٍ هَـمَّ المجتمع الدولي؟
إِنه لبنانُ الصيغة، لبنانُ المثال بباقة الطوائف والمذاهب تحت سماء واحدة، وإِنه لبنانُ الإِنسانِ اللبناني المميَّز بإِشعاع حضوره في كلِّ حقل وفي كلِّ صقع من العالم، وإِنه لبنانُ الفكْرِ اللبناني الـمُشِعِّ بنتاجه لدى معظم الشعوب، وإِنه لبنانُ المتعدِّدُ اللغات والثقافات والجامعات الكبرى، وإِنه لبنانُ النسيجِ الاجتماعي المتطور كما في معظم العالم الأَول، وإِنه لبنانُ الكتَّابِ العرب الذين يَرْنون إِلى صدور مؤَلَّفاتهم في دُور نشْر بيروت، وإِنه لبنانُ الخبراءِ المذهلين والمواهب الساطعة في العالم، وإِنه لبنانُ الفنانين العرب الذين لا يكتمل سُطُوع فنِّهم إِلَّا على مسارح لبنان وفي معارض لبنان، وإِنه لبنانُ الاقتصادِ الحر والنظامِ المالي والمصرفي، وإِنه لبنانُ السياحةِ والفنادق والمطاعم والواحات الطبيعية الفردوسية التي يفتقدُها كثيرون في بلدانهم فيَنْشُدُونها في لبنان، وإِنه لبنانُ الشعبِ الدَمِث المثقَّف المضياف الذي صدمَ الكثيرين في الدول أَن يَرَوْهُ، خَطَأً من بعيدٍ مُصَوَّرًا على أَنه شعبٌ شحَّاذٌ بَكَّاءٌ على أَرصفة الدُوَل لأَنه منكوبٌ بسياسيين فيه يوضاسيين أَنانيين محاصاتيين زبائنيين فاسدين.
المجتمع الدولي يعرف أَنَّ لبنان الحقيقيّ ليس على صورة سياسيِّيه وحُكَّامه، بل هو صيغةٌ فريدةٌ، وضرورةٌ يجدر الحفاظُ عليها، وكوكبةُ قِــيَــمٍ ووجدانٍ وأَخلاقٍ تجعل منه رسالةً ذاتَ عطاءٍ جَـــمٍّ للإِنسانية، وهو ليس موقعًا عاديًّا باردًا على الخارطة بل منارةٌ مُشعَّةٌ على المتوسط، فكأَنَّ المبادرين من أرَكان الدُوَل وشعوبِـها يَرُدُّون الجميلَ اليومَ للبنان، أوفياءَ لِـما كان أَعطاهم لبنانُ بـأَغمارِه وبيادرِه وحقولِه الخيِّرة الوفيرة من كلِّ موسمٍ وكلِّ حصاد.
هذا هو لبنان الذي هَـزَّ العالَـمَ ارتجاجُ بيروته بانفجار مرفإِها، وهذه هي بيروتُ الحريةِ/الشمس، بيروتُ الثورةِ والحضارة، بيروتُ الخط الأَحمر الشاهر غضبَهُ في وجه الإِذلال والإِجرام، بيروتُ الحياةُ التي توجعُ من ضيمٍ لكنها تظلُّ ساطعةً بالحق وتغذِّي شعبَها أَبدًا بنبضِ الحياة.