لاحظ مراقبون من خلال ما توفره صور الأقمار الصناعية وتتبع الحركة الجوية عبر الإنترنت، تحركات كبيرة من جانب روسيا في قواعدها السورية منذ الإطاحة بنظام حليفها، الدكتاتور بشار الأسد، فمنذ أسبوعين تقريبا، رُصِدَت طائرات هليكوبتر هجومية ونظام دفاع جوي بعيد المدى من طراز إس-400 يتم تفكيكه للسفر، إضافة إلى أشخاص يحملون حقائب مستعدون للمغادرة، كما رُصِدَت طائرات شحن كبيرة يتم تحميلها.
بالإضافة إلى ذلك، غادرت السفن البحرية الروسية ميناء طرطوس السوري في 11 ديسمبر، أي بعد يومين من سقوط نظام الأسد. وقد نفى المسؤولون الروس مغادرة قواتهم لسوريا وأفادوا أنهم كانوا يتفاوضون مع جماعة المعارضة المتمردة، التي قادت الهجوم الذي أطاح بنظام الأسد، والتي تعمل الآن على إنشاء الحكومة الانتقالية في سوريا. وتتوفر روسيا على قاعدتين عسكريتين مهمتين في سوريا: قاعدة طرطوس البحرية، التي أنشئت في عام 1971، وقاعدة جوية في حميميم، والتي أنشئت في عام 2015.
طرطوس هي القاعدة البحرية الرسمية الوحيدة لروسيا خارج الأراضي السوفيتية السابقة، وقد تعزز الوجود الروسي هناك قبل غزو روسيا الكامل لأوكرانيا في عام 2022 من أجل "مواجهة وردع ومراقبة أي عمليات لحلف شمال الأطلسي في البحر الأبيض المتوسط"، كما أشار معهد دراسة الحرب مؤخرا.
تُستخدم حميميم كمركز لوجستي ومركز انطلاق للأنشطة الروسية في إفريقيا، وخضعت للسيطرة الروسية بعد وقت قصير من دخول روسيا على خط الحرب الأهلية السورية. ساعدت روسيا الأسد في قمع المتمردين والمعارضة، ومن المرجح أن تكون القوة الجوية الروسية قد حولت مجرى الحرب لصالح الأسد. ولكن منذ منتصف ديسمبر/كانون الأول، أصبح الأشخاص الذين قصفتهم روسيا ذات يوم، مسؤولين عن سوريا ومصيرها. حسب تصريحات للمحلل السياسي المتخصص في الشؤون السوري، ننار حواش، فإنه "حتى الآن، كانت هيئة تحرير الشام وروسيا عمليتين، ودخلتا في مفاوضات".
وأوضح: "في الوقت الحالي تعمل روسيا تحت حماية هيئة تحرير الشام، حيث تحمي قوات هيئة تحرير الشام القوافل الروسية المتجهة إلى القاعدة البحرية والقاعدة الجوية. ولكن يجب أن نضع في اعتبارنا أيضا أن روسيا لعبت دورا بارزا ومهما للغاية، في القتال ضد هيئة تحرير الشام". وهذا الأمر يجعل الوجود العسكري الروسي المستقبلي في سوريا إشكالا محتملا. كما أوضحت صحيفة وول ستريت جورنال يوم الثلاثاء، نقلا عن مسؤولين أمريكيين وليبيين لم تسمهم، أنظمة الدفاع الجوي والأسلحة المتقدمة الأخرى من سوريا إلى قواعد تسيطر عليها في ليبيا.
لماذا الانتقال إلى ليبيا؟
يشير المحللون إلى دلالات إزالة المعدات العسكرية القيمة من سوريا، وتعليق روسيا لصادرات القمح إلى سوريا. على مدى السنوات الماضية، كانت روسيا المورد الرئيسي لسوريا، لكن هيئة تحرير الشام رفضت حاليا العروض الروسية المتعلقة بالمساعدات الإنسانية. كما يرى المحللون أن المكان الذي ستتوجه إليه السفن البحرية الروسية من طرطوس، سيكون مؤشرا مهما على المكان الذي تتجه إليه روسيا بعد سوريا، ويرون أن رسوها في ميناء طبرق الليبي، أمر مهم.
في الوقت الحالي، يرى جلال حرشاوي، المحلل السياسي الخبير في الشؤون الليبية في المعهد الملكي للدراسات الدفاعية والأمنية RUSI في المملكة المتحدة، أن "كل هذه السيناريوهات تبقى مجرد تكهنات". ويوضح "سواء بقي الروس في سوريا أو رحلوا، فهناك حقائق لا تقبل الجدل بشأنها، ومنها تغيير كيفية عملهم في سوريا".
وقال حرشاوي في تصريحاته لـ DW: "لن يبقوا على نفس مستوى الراحة والأمن والطمأنينة كما كان الأمر بالنسبة لهم من قبل، بل سيواجهون صعوبة في تأمين اللوجستيات والكهرباء والمياه والأكل". وأضاف المتحدث "عندما تدير قاعدة عسكرية أجنبية داخل بلد ما، فأنت بحاجة إلى علاقة ودية مع المجتمع والدولة، لأجل تبادل المعلومات الاستخباراتية، كل ذلك لن يتوفر للروس في سوريا الآن".
من جهته، يرى ولفرام لاشر، خبير في الشؤون اليبية في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، أننا "لم نشهده بعد أي حركة مباشرة بين القواعد السورية وليبيا، ولكن من الواضح أنه مع تزايد خطورة البقاء في القواعد السورية، تزداد أهمية ليبيا بالنسبة لروسيا"، وهو أمر يتفق عليه كل من لاشر وحرشاوي.
جدير بالذكر أنه خلال هذا العام، ذكرت صحيفة التلغراف البريطانية أن روسيا عززت مدارج الطائرات والدفاعات المحيطة في القواعد الجوية الليبية، وبنت هياكل جديدة وسلمت أسلحة للبلد الشمال أفريقي.
تهديد حلف الشمال الأطلسي!
منذ عام 2014، انقسمت ليبيا إلى حكومتين متعارضتين، إحداهما في شرق البلاد وأخرى في غربها. تدعم الأمم المتحدة حكومة الوحدة الوطنية في الغرب، أما منافستها، فمقرها في الشرق، في طبرق، وهي مدعومة من خليفة حفتر، الذي يسيطر على ميليشيات مسلحة مختلفة في هذه المنطقة.
في أوقات مختلفة على مدار العقد الماضي، حاولت كل حكومة انتزاع السيطرة من الأخرى، لكن الصراع متوقف حاليا في ظل تدهور الوضع الأمني.
اعتبر فريدريك ويهري، خبير ضمن فريق الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، أنه "على مدى السنوات القليلة الماضية، كانت الفصائل الليبية عالقة في مأزق أبقى بلادهم في متاهة من الصراعات الكبرى، واعتمد ذلك إلى حد كبير على وجود قوتين أجنبيتين هما روسيا وتركيا".
واعتبر الكاتب في مقاله أن " سقوط الأسد قد يؤثر على هذا التوازن الهش، على اعتبار أن الصراع الليبي قد يسير في نفس الطريق الذي سلكه الصراع السوري ويندلع فجأة من جديد". الأمر حسب المحلل، يتوقف على الخطوة التالية لروسيا، فإذا أقنعت روسيا حفتر بالسماح لها بإنشاء قاعدة دائمة في ليبيا، فإن هذا من شأنه أن يشكل تحديا كبيرا لحلف شمال الأطلسي.
من جهته، أوضح لاشر أن "الروس أرادوا بناء قاعدة بحرية في ليبيا منذ عدة سنوات، والآن، صار الهدف السياسي الرئيسي للأميركيين في ليبيا خلال العامين الماضيين هو منع ذلك. وقد حاول حفتر دائما الموازنة بين المؤيدين لتجنب الاختيار بينهما، وهو الآن في موقف صعب للغاية".
من جانب آخر، اعتبر حرشاوي أنه "من السابق لأوانه معرفة ما سيحدث"، لكنه قدم سيناريوهين معقولين. "في السيناريو الأول، يظل الروس في سوريا، ولكن كل شيء سيصبح أكثر تكلفة بالنسبة لهم".
وأضاف المحلل، أنه "في السيناريو الآخر، سيصبح سماح حفتر لروسيا بترسيخ وجودها بقوة في ليبيا بشكل تدريجي. في هذه المرحلة قد تنظم بعض القوى مثل حلف شمال الأطلسي مهاما تخريبية، أو حتى تدريب مقاتلين معارضين لحفتر".
واختتم حرشاوي حديثه قائلا: "سيتم الأمربشكل تدريجي، وباستراتيجية تحول ناعمة. لكن من المحتمل جدا أن ننظر إلى الوراء ونقول، نعم، ارتكب حفتر خطأ بقوله نعم للروس".
أعدته للعربية: ماجدة بوعزة