النقيب السابق للمحامين في طرابلس، الوزير السابق رشيد درباس
تابعت مثل ملايين الناس مشاهد سجن صيدنايا، وحيطان الزنزانات التي دوّن عليها المساجين أسفار العذاب، وتوالي الأيام والسنين والعقود، ومنهم من دوّنوا أسماءهم خشية نسيانها، ومنهم من أهمل ذلك فباتوا عاجزين عن تذكّر أصلهم وفصلهم وأهلهم ومدنهم.
واستعدت ذلك المقطع المصور من حديث المناضل والمفكر المرحوم ميشال كيلو مع الاعلامية السورية زينة يازجي، عن طفل في الخامسة، خُلق سجيناً لأنّ أمه حملت به في سجنها، فلا يدريان من هو الوالد البيولوجي من مجموعة السَّجانين الفحول، فشرقت بدمعي حين قال إنّ الطفل لم يكن يدري معنى عصفور أو شجرة، أو شمس أو هواء، لأنّ عالمه انغلق عليه منذ الولادة في تلك الغرفة الخانقة. وكم تهدجت كلماتي عندما كنت أقلّب عيني في ذلك الكم من الأهالي المحتشدين الذين لم يعثروا على أبنائهم فوق الأرض، فراحوا يحفرونها بحثاَ عن رمق متبقِّ أو عظام رميم.
أظهرت لنا الشاشات قاعات تحتوي على مناشير ومكابس، ما يدعو للظن أنها معامل لتدريب السجناء على أعمال النجارة والسباكة والتعدين، تأهيلاً لهم لمهن جديدة بعد إطلاق سراحهم، فإذ بالمناشير ذات أسنان أمضى من أسنان القرش، متخصصة بتقطيع الأوصال البشرية، وتكسير العظام، وتبيّن أنّ المكابس، ابتكار جديد لسحق الجثث وتسوية نتوءاتها، كي توارى الثرى بعد ذلك وهي أكثر رشاقة مما كانت عليه قبل الوفاة.
سمعت الفنان الكبير جمال سليمان، يتحدث بعيد سفر الرئيس الأبدي ليلًا، يقول إن الشعب السوري المقموع والمفجوع، قادر على أن يضمد جراحه، ويبكي شهداءه، من غير انزلاق إلى أعمال الشغب والانتقام. وتابعت الممثل باسل خياط، وهو يغالب دمعه ويصف حالة القمع والاستبداد الطويلة جدًا جدًا، بأنّ النظام كان يعتقل الأحياء، ويعتقل الأموات فلا يسلّم جثامينهم إلى ذويهم، ويعتقل أسماءهم لأنه كان يدوّن أسماء الأسرى بالقلم الرصاص، ليمحوها من السجلات بعد حلول أجلها. أما رواية ميشال كيلو فتحدثنا عن اعتقال المواليد، لكنّ الاعتقال الأمض كان بإلقاء القبض على نهر بردى، وملاحقة روائح الغوطة في الآناف، وتلويث الفرات بالكيماوي ذي التقاليد البعثية، حيث أنّ الاعتقال الأعظم كان في سجن شعار الوحدة في دهاليز النعرات الطائفية والمذهبية والعرقية، وربط الحرية على أقدام أصنامهم التي اغتصبت الميادين والحدائق، ودفن الاشتراكية في أبهاء قصورهم وفنجواتهم، وعلى أبواب الأفران، وفي انتظار ساعة من الكهرباء كل 24 ساعة.
ذاكرتي ملأى بالحوادث والنوادر والأمثال والأشعار، ولكنها في حالة بيات، بفعل تراكم المواضيع وفوضى الأرشيف، وثقوب السنين. لكن ما يعزّيني أنني أملك فهرستاً خفياً، يخرج من حافظتي المادة المطلوبة الغارقة في طيات النسيان، إلى حيز الوجود إزاء حدث ما، فسيتدعيها، لتكون شاهداً من الماضي على الحدث الجديد، حيث أملت عليّ اليوم ذاكرتي الانتقائية أن أتلو عليكم بعض سعيد عقل:
صَرَخَ الحَنينُ إليكِ بِي: أقلِعْ، وَنَادَتْني الرّياحُ
كلُّ الذينَ أحبِّهُمْ نَهَبُوا رُقَادِيَ وَ استَرَاحوا
وعليكِ عَينِي يا دِمَشقُ، فمِنكِ ينهَمِرُ الصّبَاحُ
وأسمعكم شذرات من محمود درويش:
تطير الحمامات
خلف سياج الحرير
اثنين... اثنين
في دمشق
أرى لغتي كلها
على حبة القمح مكتوبة بإبرة أنثى
ينقحها حجل الرافدين
في دمشق
تُطَرَّزُ أسماء خيل العرب من الجاهلية
حتى القيامة أو بعدها
بخيوط الذهب
في دمشق
تسير السماء على الطرقات القديمة
حافية... حافية
فما حاجة الشعراء إلى الوحي و الوزن و القافية
أما صلاح جاهين فيقول في إحدى رباعياته:
انا كل يوم أسمع إن فلان عذبوه
أسرح بأفكاري... وإحساسي... وأتوه
أنا مش بعجب عللي يطيق جسمه العذاب
أنا باعجب عللي يطيق يعذاب أخوه
عجبي
يا شام لا تليق بك التقدمية المزورة، ولا الظلامية المموّهة
قبلَكِ التّاريـخُ في ظُلمـةٍ
بعدَكِ استولى على الشُّهُبِ