في خضم الصراعات الكبرى التي هزّت سوريا على مدار العقد الماضي، تبرز أسئلة مصيرية حول شكل نظام الحكم الذي يمكن أن يولد من رحم هذه المأساة. بين طموحات القوى السياسية الإسلامية والتحديات التي تفرضها التعددية الدينية والإثنية، يظل مستقبل البلاد معلقًا بين رؤى متضاربة؛ هل ستختار سوريا نظامًا دينيًا صارمًا أم دولة مدنية تستند إلى مزيج من الشريعة والقوانين الوضعية؟
منذ انهيار السلطنة العثمانية، ظهرت الحركات الإسلامية كقوى سياسية واجتماعية تسعى لاستعادة مكانة المسلمين عالميًا. إلا أن مسار هذه الحركات تعرض لتحولات حادة نتيجة القمع والاضطرابات السياسية، ما دفع بعضها إلى نهج العنف. في سوريا، عكست تجربة "هيئة تحرير الشام" تحولاً لافتًا في الخطاب والأهداف، حيث أبدت تفهمًا أعمق للواقع السوري، وأعلنت رؤية تدعو إلى دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية، تراعي التعددية وتحترم حقوق الأقليات.
لكن يبقى السؤال الأهم: كيف يمكن لهذه الرؤية أن تؤسس لاستقرار سياسي واجتماعي، في ظل تعقيدات الصراع الداخلي وضغوط القوى الإقليمية والدولية؟
في مقابلة مع "vdlnews"، ألقى الأستاذ المحاضر في كلية العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية طارق المبيض الضوء على رؤيته لنظام الحكم في سوريا بعد انتهاء الصراع. عند تحليل طبيعة هذا النظام، يشير إلى احتمالية أن يكون مزيجًا بين الشريعة والقوانين المدنية بدلاً من نظام ديني بحت.
بدا المبيض حديثه باستعراض تاريخي للحركات الإسلامية، حيث أشار إلى أن هذه الحركات نشأت كرد فعل على سقوط السلطنة العثمانية، التي كانت تشكل مظلة تجمع المسلمين وتحمي مصالحهم. كانت البداية مع حركة الإخوان المسلمين التي أسسها الإمام حسن البنا عام 1928، والتي تميزت بأفكارها المعتدلة وإيمانها بالعمل السياسي ضمن إطار دستوري. لكن هذه الحركات واجهت عقبات كبيرة من الأنظمة الحاكمة، التي كانت تنقلب على نتائج الانتخابات الشعبية إذا جاءت لصالحها، مما أدى إلى نشوء تيارات أكثر تشددًا.
ومن أبرز الأمثلة التي قدمها ، جماعة الجهاد في مصر في الثمانينيات، التي لجأت إلى العنف بعد حملة اعتقالات واسعة ضد الإسلاميين. كذلك، شهدت الجزائر تحول جبهة الإنقاذ الإسلامية إلى العمل المسلح بعد انقلاب الجيش على نتائج انتخابات عام 1992. ولم تكن سوريا بمنأى عن هذه الديناميكيات، حيث دفع القمع النظامي للإسلاميين في السبعينيات إلى اندلاع أحداث عنيفة مثل مجزرة حماة عام 1982.
وأوضح أن التشدد غالبًا ما يكون نتاجًا للقمع، مؤكدًا أنه في حال تم احترام الإرادة الشعبية، فإن الجماعات الإسلامية ستخضع لتحولات فكرية وتراجع رؤاها. هذا المنحى بدأ يظهر في سوريا الآن، حيث أسهمت تجربة السيطرة على إدلب منذ عام 2017 من قبل "هيئة تحرير الشام" في تطوير فهم هذه الجماعات لإدارة السلطة والمجتمع.
وأشار المبيض إلى أن نظام البعث منذ عام 1971 كان سببًا رئيسيًا في اندلاع الثورة السورية بسبب تفرده بالقرار السياسي وقمع الحريات. كما أن دخول الجماعات الإسلامية المتطرفة مثل "داعش" ساعد النظام السوري على إطالة أمد بقائه، من خلال استغلال هذه الجماعات كفزاعة لتخويف الداخل والخارج.
وأضاف أن "هيئة تحرير الشام" استوعبت هذه التجارب وبدأت بتطوير خطاب سياسي جديد يعكس فهمًا أعمق للواقع السوري. وأكد أن خطاب أحمد الشرع كان واضحًا في الإشارة إلى رغبة الهيئة في تأسيس دولة مدنية يختار فيها الشعب ممثليه، مع ضمان حقوق الأقليات. وأوضح أن الدولة المنشودة ستكون مدنية بمرجعية إسلامية تتماشى مع انتماء غالبية الشعب السوري للدين الإسلامي، دون المساس بحقوق الأقليات.
وعن حقوق الأقليات الدينية والإثنية في سوريا تحت حكم "هيئة تحرير الشام"، أوضح أن معظم الجماعات الإسلامية تقر بحرية أتباع الديانات الأخرى في ممارسة شعائرهم الدينية وحياتهم وفق ما تفرضه عقائدهم. وأشار إلى أنه لا يمكن منع غير المسلمين من ممارسة عاداتهم مثل شرب الخمر أو تناول اللحوم التي يحرمها الإسلام. أما بالنسبة للحقوق السياسية، فقد أظهرت الهيئة منذ البداية توجهًا إيجابيًا من خلال تعيين مطران كمحافظ لحلب بعد تحريرها، مما يعكس احترامها لحقوق الأقليات السياسية وعدم حصر الوظائف بطائفة معينة. أما الأقليات الإثنية، فأكد أن الإسلام يقوم على العقيدة وليس على العرق، مما يعني عدم وجود مشكلات معهم في الأصل.
وفيما يتعلق بمفهوم الدولة الوطنية مقارنة بمفهوم الأمة الإسلامية في تحديد هوية سوريا المستقبلية، أشار المبيض إلى أن ابتعاد "هيئة تحرير الشام" عن التنظيمات الإسلامية الأخرى يكمن في تركيزها على الداخل السوري وإسقاط النظام. وأوضح أن التسمية نفسها تحمل دلالة واضحة؛ فالهيئة حصرت عملها بـ"التحرير" أي إسقاط النظام، و"الشام" أي العمل داخل سوريا فقط. على عكس التنظيمات الأخرى التي تسعى لإقامة دولة إسلامية تتجاوز الحدود القطرية المرسومة في اتفاقية سايكس بيكو.
وأضاف أن أداء الهيئة بعد إسقاط النظام كان ذا دلالة واضحة على التزامها بالعمل ضمن حدود سوريا الحالية، مع تركيز خطابها على الشعب السوري وبناء الدولة السورية. وأكد المبيض أن الهيئة لم تتطرق في خطابها إلى أي مشاريع تتجاوز الحدود السورية، بل شددت على إقامة أفضل العلاقات مع دول الجوار لحفظ مصالح الشعب السوري. وبالتالي، فإن هوية سوريا المستقبلية وفق رؤية الهيئة ستكون هوية سورية بحتة، تقوم على إعادة بناء الدولة، وترسيخ ثقة السوريين في بلدهم، واحترام حدودها، مع بناء علاقات إيجابية مع دول الجوار.
وعن تطبيق الشريعة الإسلامية، أوضح أن هناك تطبيقين للشريعة: التطبيق الحرفي الذي يعتمد على نصوص معينة مثل إقامة الحدود وفرض نمط حياة إسلامي على المجتمع، وإعطاء طابع إسلامي للدولة؛ والتطبيق العميق الذي يركز على مقاصد الشريعة مثل حفظ الدين، والنفس، والعرض، والمال، والعقل. ويرى المبيض أن المعارضة السورية المسلحة، لا سيما الإسلامية منها، تسعى إلى تطبيق معاني الشريعة ومقاصدها من خلال إقامة العدل، وحفظ الحرية الدينية للسوريين، وصون حياتهم من المعتقلات السرية والتعذيب والقتل، وعدم هتك أعراضهم، والحفاظ على أموالهم ومصالحهم، وحماية عقولهم من خلال التأكيد على حرية التعبير وعدم قمع الحريات.
وأشار إلى أن هذا النهج يعكس روح الشريعة ويتناسب مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية، مما يعني المحافظة على القيم الإسلامية دون التركيز على الشكل الإسلامي من حيث الشعارات والممارسات.
أما عن التعامل مع القوى الإقليمية والدولية التي قد تعارض رؤيتهم لحكم سوريا، وأشار إلى أن القيمين على الثورة السورية، لا سيما الإسلاميون، يسعون لإقامة أفضل العلاقات مع الدول المجاورة. وأوضح أن هناك بالفعل علاقات مميزة مع تركيا، وأن أحمد الشرع وجه رسائل طمأنة للمجتمع الدولي والدول العربية، حتى تلك التي دعمت عودة النظام السوري إلى الجامعة العربية، واصفًا ذلك بأنه سوء تقدير لا أكثر. وأضاف أن فك ارتباط سوريا بإيران وسياسة المحاور سيدفع سوريا نحو الحياد الإيجابي تجاه القضايا العربية، مما يجعلها عامل استقرار في المنطقة بدلاً من زعزعتها.
وفيما يتعلق بالخطط لإعادة بناء سوريا سياسيًا واجتماعيًا بعد سنوات من الحرب، شدد المبيض على أن أولى الأولويات هي الحفاظ على التعددية السياسية، مؤكدًا أن الثورة قامت بالأساس ضد الأحادية السياسية. وأشار إلى أن هناك فترة انتقالية يجب أن يأخذ فيها السوريون أنفاسهم، يتم خلالها التحضير لسن دستور جديد يسمح بالتعددية السياسية، وإعادة بناء الثقة بين كافة أطياف الشعب السوري بهدف تأمين الاستقرار المجتمعي. وخلال هذه الفترة، ستعمل مكونات الثورة على صياغة خطاباتها السياسية وتأسيس أحزابها، ليكون التنافس شبيهًا بالمرحلة التي سبقت اعتلاء البعث للسلطة في سوريا عام 1971.