النقيب السابق للمحامين في طرابلس، الوزير السابق رشيد درباس
بين الحلقة 1695 والحلقة 1696 انفصمت واسطة العقد، وانفتحت مساحة كئيبة مشى فيها هنري الأول في جنازة هنري الثاني... يا للوحشة.
أبدأ، فأذرف نقطة دمع على حُرَقِ هنري زغيب، جار الهواء الطيب، وذاكرة الفن، وبستان الثقافة والأدب، وأردد معه ما قال ابن الرومي:
كأني ما استمتعتُ منك بِضَمَّةٍ
ولا شمَّةٍ في مَلْعبٍ لك أو مَهْدِ
صبّرك الله أيها الصديق العزيز.
أما بعد، اللبنانيون يتوزعون بين عاجل الموت وآجله، فمنهم من يموتون فرادى، ومنهم من يموتون جمعاً، وذلك وفقاً لما تراه المُسَيَّرة، ويختاره الذكاء الاصطناعي؛ وقد يأتي أجل المرء لأنه مستهدف لذاته، وغالباً ما يصطحب عائلته معه. أما المعزون بالموتى فإنهم مرشّحون للالتحاق بصاحب العزاء عقاباً لهم على مجاملتهم لأهالي الشهداء.
في غزّة مثلاً، لم تبقَ بيوت ومستشفيات فراحت الطائرات تشبع نهمها باستهداف الخيام وإحراقها بمن فيها، وفي لبنان يتمتّع الاسرائيلي بحس إنساني، فينذر السكان بالإخلاء قبل دقائق من القصف؛ كل هذا يدخل في نطاق الموت العاجل، إذ يسلم عشرات الآلف أرواحهم من حيث لا يعلمون من أين يدخل عليهم عزرائيل الذي توظّفه إسرائيل منذ اغتصاب فلسطين.
أما الموت الآجل فهو أشد لؤماً وفتكاً، إذ يلجأ العدوان في لبنان، كما فعل في غزّة، إلى تهجير السكان تمهيداً لتسوية بيوتهم بالأرض وتعقيم حقولهم من الخصوبة.
الخطّة الظاهرة حتى الآن هي أنّ العدو يجعل عودة المهجّرين إلى جنوبهم أمراً عسيراً جداً ومكلفاً جداً، في حال أُجبر على وقف إطلاق النار، وهو يفعل الأمر عينه في الضاحية التي فرغت من أهلها ولكنه لا يكفّ عن تدمير عمرانها مستعملاً قنبلة سبايس 2000 المعدّة لمحو المدن من الوجود. بعد هذا يتحقق الاحتقان المفضي إلى الفتنة، حيث ستكتظ مناطق النزوح، لاسيّما الجغرافيا الواقعة بين صيدا وبيروت بالمقيمين فيها، في ظروف بالغة السوء اقتصادياً وسياسياً وصحياً، فيضيق الأخ بأخيه والمضيف بضيوفه، وتعصى اللقمة على الأفواه، والدواء على الداء، وتنتشر البطالة وتعمّ الفوضى، ويضطرب حبل الأمن، وهذه عيّنات من الموت الآجل.
علمت بالأمس أن منظمة (الاوكس فام) الإنسانية افتتحت منذ أيام حملة لجمع التبرعات في هولندا لمصلحة نازحي لبنان، ممتدة حتى شهر كانون الثاني من العام القادم، فإذ هي تحرز حتى تاريخه مبلغ 23 مليون دولار كدليل على التعاطف الأهلي، وربما كتعويض عن تقصير دولهم عن المبادرة لوقف هذه المجزرة.
هنا يأخذني التفكير إلى أنّ مؤسسة الصليب الأحمر المحترمة، وكثير سواها، تستطيع أن تفتح حملات مماثلة في أوروبا كلها وفي الدول العربية، تعبيراً عن التعاطف الذي يجمع بني البشر، وعن حقهم في الحياة، في وجه مجرم متفلت من الحس، مسكون بالخرافة والقوة الغاشمة، يُردي الشعوب وهو يعتلي الغيوم كمنصة إطلاق، بحجة حقه بالأمان وهو الذي لم يزل يزرع الإرهاب ويولده منذ ما قبل نسف فندق الملك داود على يد الإرهابي الشهير منياجم بيغن.
كلمة لا بد منها وهي أننا نملك من الكفاءات والحيوية بأن نجعل قضيتنا تأنيبَ ضمير للعالم، وأن ننشر على سطوح الدنيا شظايا مدننا وأشلاء شهدائنا، ودماءنا المسفوحة. نحن نملك أن نستعيد العرب إلى محبتنا وحاجتنا إليهم وحاجتهم إلينا، فما زلنا بالنسبة لهم واحة حرية وموئل ابتكار.
ونحن أخيراً يجب أن نقوم بحملة توقيع عرائض من اللبنانيين، لنرفعها إلى سفارة جنوب إفريقيا، أو إلى حكومتها، لنرفق قضية الشعب اللبناني، بقضية فلسطين أمام محكمة العدل الدولية طالما أن وزير الخارجية لم يفطن إلى ذلك حتى الآن، وأناشد القمة الروحية الموقرة أن تكتب رسالة مشابهة إلى دولة جنوب إفريقيا التي قهرت العنصرية بالسلم.