النقيب السابق للمحامين في طرابلس، الوزير السابق رشيد درباس
من القواعد الشرعية أنه حيث تكون مصالح الناس، ثمة شرع الله، ومصالح الناس كثيرة ومتشعبة ومتجددة وقد تكون متناقضة في أحيان كثيرة، لكن المصلحة التي لا خلاف عليها أن تكون حيواتهم بمنأى عن أخطار الموت.
في لبنان وفلسطين يخالف شرع الله، قاتل يستمد مشروعية توحشّه من خرافة الشعب المختار، وتخالفه أيضاً مجتمعات محلية وعربية ودولية، بالفرجة أو التأييد أو الصمت وبالعجز والعقم الفكري والإرادة المشلولة.
أحصر كلامي بلبنان وقد بتّ أعاني من قصب سباق بين الدم والحبر، إذ كلّما كتبت عن مجزرة، سبقتني مجزرة جديدة وهول لا ندرك مداه.
نحن الآن على مفترق بين طريقيْ السلامة والندامة، حيث لات ساعة مندم، مع العلم أن العقل اللبناني يستطيع تجنّب البلاء رغم تماديه، إذا ما تجرأ على الالتقاء في مساحة من المراجعة والمحاسبة. ليس من الإنصاف أن نحمل القيادة الشيعية المسؤولية الكاملة عن هذا الاضطراب السياسي والاجتماعي المزمن، فقد سبقتها إلى ذلك الطوائف بمعظمها، وهي لا تلام كذلك لأنها لم تتعظ من خيبات سواها، إذ جاءها الجو مؤاتياً بالتوافق السوري الإيراني الذي أعطاها أفضلية مطلقة على مدى أكثر من ثلاثة عقود، وسوّغ لها مشروعية السلاح كمقاومة محتكرة لميدان التحرير، ثم كفريق سياسي يحكم السيطرة على مفاصل الدولة في ظل قيادة محنّكة استطاعت تدجين الحضرة السياسية زماناً طويلاً.
فإذا تخطّينا ذلك لا يجوز لنا تجاهل أنّ ما سُمّي بمحور الممانعة قد خانته فضيلة التبصر والاستنتاج، إذ إنّ القوة لا تقاس بمقدار ما لديك من السلاح المنضوي تحت لواء تنظيمي حديدي سياسياً وعسكرياً و حسب، لأنّ العبرة لا تقتصر على القوة الذاتية، بل على قابليّة الأرض لتحملها، فإنها قد تستكين إلى حين، لكنها لا تلبث أن تتململ تضاريسها وفوالقها تحت وطأة لاواقعية المشروع السياسي وتجاهله للاعتبارات الداخلية والتربص الخارجي.
إنني لا أخفي إعجابي الكبير بالمقاتلين الذين يكبّدون العدو خسائر غير مسبوقة، وهم يتصدّون له في أصعب الظروف اللوجسيتة، حيث يجبهون التفوّق بسلاح السليقة، وقداسة التراب، ولكنني أجرؤ على القول إن هذا الصمود لا يستطيع وحده أن يردع الطائرات والمدفعية التي تأخذ راحتها كاملة تحت بصر المنظمات الدولية والإنسانية والدول المتحضرة، فقد آن لنا، لا سيما لقيادة المقاتلين، أن نبحث عن الإنقاذ من بين الأنقاض، وأن نخلّف وراءنا اللغة السياسية الراهنة المتبارزة بين المكابرة والمصاغرة، فيما نتنياهو ومجرمو الحرب من قادته يقفون مزهوين بتدمير نصف لبنان وتشريد أهله، واعدين ومتوعدين بمزيد من وسائل القتل الحديثة، لتأخذنا إلى العصر الحجري على حدِّ زعمهم.
قديماً قال ناسك الشخروب ميخائيل نعمية:
أخي ! إنْ عادَ يحرث أرضَهُ الفَلاّحُ أو يزرَعْ
ويبني بعدَ طُولِ الهَجْرِ كُوخَاً هَدَّهُ المِدْفَعْ
فقد جَفَّتْ سَوَاقِينا وَهَدَّ الذّلُّ مَأْوَانا
ولم يتركْ لنا الأعداءُ غَرْسَاً في أراضِينا
سوى أجْيَاف مَوْتَانا
وأخشى ما يخشى أن ينطبق علينا المقطع الأخير من قصيدته:
لقد خَمَّتْ بنا الدنيا كما خَمَّتْ بِمَوْتَانَا
فهات الرّفْشَ واتبعني لنحفِرَ خندقاً آخَر
نُوَارِي فيه أَحْيَانَا
أصدقائي، كثير منكم يسمّي هذا البرنامج: "ناقوس في خطر"... وهم الآن محقّون جداً، فلن نتجنب الخطر بتقديم مزيد من الشهداء والضحايا والمدن والحقول المجرفة، فليس تعريف الشجاعة أن نُقتل بغير إرادتنا وتوقعنا، أو نرضخ لتدميرنا وتشريدنا، ولكننا إذا أردنا ان نقدم إمداداً للمرابطين الشجعان، فلا أنجح من الاتفاق الوطني القائم على عودة الوطن إلى حضن الدولة الدستورية.
أختم بما قاله المتنبي:
تَمَرَّستُ بِالآفاتِ حَتّى تَرَكتُها تَقولُ أَماتَ المَوتُ أَم ذُعِرَ الذُعرُ
ولا أظنّ هذا البيت بحاجة إلى شرح.