الاعلامي بسّام برّاك
في المشهد الأخير لوقوفكِ على هذه الأرض، كنتِ في حَيرة بين البقاء أوِ الارتفاع. كنتِ تتلمَّسين تَيتُّمَنا في بعادك عنّا، فنحن لا نجيد البنوَّة الا بحضورك، وحين تنتقلين يُفقدنا الكفرُ إيمانا!
فارقتِنا، وبعضٌ من عينيك، بعضٌ من صوتك ومن طُهر قدميك، تركتِها هنا في لبنان. وها قد حلّ شهرُ آب يا مريم فالتهبَ وطني من مرفئِه إلى بيروته وبيوته، أهلُه تشرَّدوا جُرِحوا، عُرّوا من منازلهم، وجُرِّوا من طقوس يوميّاتهم.
حلَّ شهرُ انتقالك فانتقلنا بفضل سياسيّينا من وجع الى الأكثرِ وجعًا، وتحوّلنا بفعل لا حكمة حكمائنا من مواتٍ اقتصاديٍّ ماليٍّ إلى موتٍ تفجيريٍّ تهويديٍّ إهماليٍّ وتعمُّديّ..
بيوتُ أهلِ بيروتَ مشرَّعة على مطر مفاجئ من خارج زمنه، والمطر نار ، والنار مطر يبلّل ويُحرق فتضيّع الشوارع رونقَها وتتكسّر تحت خشبها، وتنهدُّ بين حجارتها، وتفقد أسماءها وأدراجها وأبنيتها ودكاكينَها بفعل نارِ الحقد من هنا، ونار الجهل من هناك.. نار تكدّست ستَّ سنوات تحت محرقة لم نعثر بعدُ على مشعليها لكننا نرى محتضنيها وحامييها في عنابرَ يُفترَض أنها لقمح الحياة، لخبز المواطن، للقمة تجنِّبُه جوعًا، فإذا بالرؤساء يقدّمون لنا الجوعَ مشفوعا بالدم، والجراحَ مبلولة بالملح من رأس الحكم الى أخمصه، ممَّن لا يجوز شتمُهم لأنهم أنصاف آلهة وهم لا ينصِفون الشعب، ممَّن لا يجوز حرقُ صورِهم ويُجاز لهم حرقُ بلد، ممَّن لا يصحُّ للناس طردُهم من عباءة الحكم، وهم يَطردون المواطنين من أعمالهم وأرزاقهم وأحلامهم، ولا يرفُّ لهم جفنُ ضمير.
مريم، عشيةَ عيد انتقالك دبّري لبنان كما تدبّرتِ شؤونَ هربكِ مع يوسف من المغارة إلى مصر حين جُنّ هيرودوس وقتلَ أطفال بيتَ لحم، فنحن لدينا قتلةٌ على منواله بلباس آخًر يقتلون الكبار َكما الصغار. دبِّري لبنان كما حين كنتِ في العرس ولاحظتِ أنّ الخمر قلّت ففاضت بكلمةٍ منكِ، كي لا تفيضَ بدلا منها الدماءُ في أوردة الثائرين ، و كما دبّرتِ من البداية مشيئة الله ولم تقولي له "لا" حين سألك أن تكوني أمَّه، فلا تقولي لنا" لا"، واجعلينا جزءًا من "نَعمِك". فلبنان لم يعد له مهربٌ من أعداء يكمنون في الداخل، أسماؤهم تُعرَف من صفاتهم "رؤساء زعماء حكّام وقادة"، ونحن لم نعد نريدُهم، ولا نصدِّق تبرُّؤ بعضِهم من فساد بعضهم، ولا نصادقُ على خطاب إنسانية بعضِهم من وحشية خطابات بعضِهم، ولن نتصدَّق زعامةً وطنية من بعضهم على حسابِ أفول بعضهم .
هم خطأةٌ أكثرُ من البشر العاديين، يلزمُهم سنواتْ من الاعترافات ليُصفحَ عن سرقاتهم وجرائمهم وخبثهم وجهلهم ؛ نحن نرميهم خلفنا ونجيئك بأسباب تشتُّتِنا وتفَرقِنا، عساك تجمعيننا تلملميننا لأنّكِ قلتِ ذات بشارة أمومة: نعم!
تلك النَّعم، غالٍ ثمنُها يا عذراء، فهل كنت تعلمين؟ هل كنتِ تدركين أنّك إنّما تحملين أجنّة الكون لا جنينَ السماء وحده؟ ولبنانُ هو الجنين الأكثرُ إيلاما ومخاضا وبنوّة وصليبًا وقيامة.
هي ثلاثةُ حروف، ونحن ثلاثةُ ملايينَ، مسيحيّين ومسلمين. هي كلمة، ونحن أسماءٌ وهُويّات وطوائف وصراعات وانتماءات فارغة وشعارات واهِية . هي سلام، ونحن حروبٌ . ف"مَريمِينا" يا عذراءُ بكِ، مُدّي ثوبَكِ السماءَ على أرضنا واحمينا من فراغٍ يملأنا.
...وحين تصلين لدى ابنك، أجيبيه إن سألكِ عن خيط ثوبِك أين تركتِه، وعن لون أزرقِك أين نشرتِه، وعن نبض قلبِك أين خفقتِه، وعن زهرك في أيِّ رماد غرستِه ؟ أجيبيه إن سألك: هل في الوطن المكلوم المنفجر المتروك، المحكوم قهرًا من حُكامه، هل في لبنان أبقيتِ الكثيرَ منكِ وجئتِ إليّ بالقليل؟
بالله عليكِ مريم ، أجيبيه: نعم!