النقيب السابق للمحامين في طرابلس، الوزير السابق رشيد درباس
منذ إعلان لبنان الكبير، قيل عنه أنه دولة هشّة، مركّبة تركيباً متنافراً، وأنّ طائفة من مواطنيها تتحكم فيها وتستأثر بمنافعها، فيما طوائف أخرى تشعر بالغبن، وتؤكد انتماءها إلى محيطها العربي على حساب الكيان الجديد.
في العام 1943 تشجعت الطبقة السياسية وأقدمت على تعديل الدستور بما حدا بالانتداب الفرنسي لاعتقال زعماء الاستقلال بينما كان حبيب أبو شهلا والمير مجيد ارسلان يقودان الحكومة الموقتة.
اتخذت الدولة الجديدة شكلاً دستورياً ديمقراطياً، اعترضته ثورة بيضاء أطاحت برئيس الجمهروية المجدّد له.
نكبة 1948 أصابت لبنان بزلزلة عميقة لم تظهر ارتداداتها إلا بعيد هزيمة 1967، سبقت ذلك أحداث 1958 التي اندلعت بسبب فكرة التجديد للرئيس شمعون التي واكبت إنشاء حلف بغداد، ثم انتهت بلا "غالب ولا مغلوب"، و"لبنان واحد لا لبنانان".
شهد لبنان بعد ذلك استقراراً شهابياً دام حوالي عشر سنوات إلى أن مادت الأرض بنا بفعل انتشار المنظمات الفلسطينية وانقسام اللبنانيين إنقساماً حاداً، جعل الدولة دولتين، اقيمت في خراجهما دويلات، والجيش جيشين، تحاذيهما عصابات تزعم الثورية والتحرير.
دُمّر لبنان بشكل وحشي فخلنا أن لا قائمة له بعد ذلك، إلى ان عُقد مؤتمر الطائف وتألّفت الإرادة العربية والدولية على إعادة الإعمار واعادة تشكيل الدولة في ظل بزوغ نجم الرئيس رفيق الحريري الذي كان معقد ثقة عربي ودولي، إلى أن صدر القرار في العام 2005 بإنهاء مهمّاته بموجب فرمان مؤلف من 1800 كيلوغرام من الديناميت.
قبل خروج الجيش السوري تم اكتشاف حقيقية سياسية جغرافية، بأنّ التحرير لم يتم في العام 2000 كاملاً، إذ سقطت سهواً المزارع والتلال الأمر الذي اقتضى معه ابتكار الثلاثية المقدسة.
وقع النظام السياسي برمّته في الارتهان المسلّح المدجّج بالخطب التي كانت تطلق إرهاباً لإسرائيل، فإذ هي تضل طريقها وتوقع الرهبة في نفوس أكثر اللبنانيين، بما دعا معظم الطبقة السياسية للتكيّف مع ميزان القوى، وهذا أدّى إلى فوضى دستورية غير مسبوقة، كانت أبرز تجلّياتها التحكم بالدستور نفسه ومواعيده، بما في ذلك تشكيل الحكومات وانتخاب رئيس للجمهورية...
في العام 2006، وبعد عناقيد الغضب والرصاص المصبوب، دمّرت اسرائيل البنى التحتية اللبنانيية بلا هوادة، فخرجنا من ذلك بالقرار 1701، ثم باتفاق بعبدا، ثم بطاولة الحوار، وكان ذلك كلّه قد كتب على ورق أُمِرْنا بِبَلَه وشرب مائه.
ولما أنتفض اللبنانيون بطوائفهم وأجيالهم، قُمعوا في ساحة الشهداء، وعوقبوا بحرمانهم من ودائعهم المصرفية، بقرصنة لم يشهدها تاريخ العالم، حيث أفقر شعب برمته على اختلاف طبقاته الاجتماعية؛ منذ ذلك الوقت حلّ اقتصاد "الكاش" محل المصارف، وصارت السوق مرتعاً للتبييض والممنوعات.
ولاكتمال البلايا انفجر المرفأ انفجاراً نووياً وما زال الفاعل مجهولاً، ثم كانت حرب المساندة، فالعدوان الساري المفعول الذي يحاول أن يلغي الجنوب والضاحية والبقاع، ويُصَدّر للبنانيين فتناً جديدة بين الظاعن والمقيم.
وحتى لا يطول تساؤلكم عن سبب هذه السردية المعروفة، أجيبكم، أنه بالرغم من كل ما ذكرت، فإن ذلك "الكيان الهش"، المؤسَّس في العام 1921، والمركب "تركيباً متناقضاً"، ما زال صامداً بل نابضاً بالحيوية يبتكر لكل معضلة حلاً، ولكل يأس أملاً، لأنه متميّز بالحريّة بعدم الاستسلام لقيود الماضي، وشاخص دائماً إلى فجر جديد ينسج خيوطه من الدماء وحب الحياة.