وسط دوامة الأزمات التي يعيشها لبنان، تترسخ في الأذهان صورة البلاد التي لم تعرف الاستقرار منذ عقود. من الأزمة الاقتصادية التي دمرت الاقتصاد، إلى انفجار مرفأ بيروت الذي لا يزال يترك جراحه النفسية، وصولاً إلى التهديدات المستمرة بنشوب حرب جديدة. كل هذه العوامل تخلق جواً من الخوف والقلق، ليس فقط على مستوى الأمن والصحة البدنية، ولكن بشكل خاص على مستوى الصحة النفسية. والأكثر تأثراً بهذه الأزمات هم الأطفال الذين يكبرون في بيئة تتسم بعدم الاستقرار والتوتر.
يعيش المواطن اللبناني في حالة من الترقب المستمر، غير قادر على التنبؤ بما يمكن أن يحدث في المستقبل القريب. فمع كل تصريح سياسي أو تحليل اقتصادي، يتزايد الخوف من اندلاع حرب جديدة قد تكون مدمرة. هذا الخوف المستمر يتجلى في شعور عام بالتعب النفسي، حيث يواجه المواطنون صعوبة في التخطيط للمستقبل أو حتى في الشعور بالأمان. ولعل أصعب ما في الأمر هو الشعور بالعجز أمام هذا الواقع، حيث تتحول التصريحات السياسية إلى نسيج من التشاؤم الذي يضيف مزيداً من الضغط على المواطنين.
في عصر السوشيال ميديا والتكنولوجيا، لم يعد من الممكن فصل الأطفال عن الأحداث الجارية. يعيش الأطفال في لبنان اليوم في بيئة مشبعة بالخوف والقلق، حيث يتعرضون لموجة مستمرة من الأخبار السيئة عبر منصات مثل تيك توك وفيسبوك وإنستغرام. هذا الانغماس في الأحداث يولد لديهم شعوراً بأن مستقبلهم أصبح مجهولاً، وأن الأمان والاستقرار الذي يحتاجونه لنموهم السليم لم يعد موجوداً.
الأطفال الذين يشهدون هذه الأحداث يمكن أن يعانوا من اضطرابات نفسية قد تستمر معهم لفترة طويلة. إنهم يكبرون في بيئة تحيطها الصدمات، مما يؤثر بشكل مباشر على تطورهم النفسي والعاطفي. ومع عدم وجود بيئة آمنة توفر لهم الحماية والطمأنينة، يصبح من الصعب على هؤلاء الأطفال أن يثقوا في مستقبلهم.
في ظل الوضع الراهن في لبنان، يبدو أن الأزمات التي تمر بها البلاد قد تجاوزت الصعوبات التقليدية الناتجة عن الحروب لتصل إلى مستويات غير مسبوقة من التعقيد والخطورة. في حوار مع موقع VDLNews، أكد الدكتور داوود فرج، المعالج النفسي، أن الأزمة الحالية لم تعد مجرد صراع سياسي أو وطني، بل أصبحت أزمة ذات طابع اجتماعي وفئوي، مما يثير قلقًا واشمئزازًا شديدين، خاصة بين فئات المجتمع التي تشعر بأنها مستهدفة بشكل مباشر، لاسيما أبناء الجنوب اللبناني.
الدكتور فرج شدد على أن الانقسام الاجتماعي في لبنان يتفاقم بشكل متسارع، دون أن يدرك الكثيرون مدى خطورته. هذا الانقسام ينعكس في تزايد الهجرة القسرية من المناطق التي تشهد تهديدات متكررة بالحرب، مما يهدد بتفكك النسيج الاجتماعي للبلاد. ومع استمرار هذا الوضع، يرتفع مستوى القلق بين المواطنين، مما يخلق حالة من الشلل في قدرتهم على التخطيط للمستقبل أو تحقيق أهدافهم الشخصية.
وأوضح أن الإنسان بطبيعته يحتاج إلى أهداف وأحلام ليتمكن من العيش بشكل طبيعي، ولكن عندما تُسلب هذه الأهداف يصبح الفرد عرضة للقلق والاضطراب النفسي، وهو ما يؤدي إلى شلل في الحياة اليومية وانحسارها إلى مستوى هامشي.
وتابع بأن العديد من اللبنانيين يشعرون اليوم بأن الحياة والموت أصبحا وجهين لعملة واحدة، حيث بلغ اليأس والإحباط ذروتهما في ظل هذه الظروف القاسية.
أحد أخطر الجوانب النفسية في الوضع الراهن، وفقًا للدكتور فرج، هو حالة "اللا حرب واللا سلام" التي يعيشها لبنان، حيث يواجه المواطنون تهديدًا مستمرًا دون أن يكون هناك أفق واضح لحل الأزمة. هذا الوضع يضع الناس في حالة من التوتر والقلق الدائمين، مما يزيد من تعقيد الأزمة النفسية العامة في البلاد.
وفيما يتعلق بالأطفال، أشار إلى أن الأسرة في لبنان تلعب دورًا حيويًا في توفير الحماية والدعم النفسي للأطفال. إلا أن الأزمة الحالية جعلت الأهل أنفسهم يعيشون في حالة من الخوف والهلع، مما يؤثر سلبًا على الأطفال الذين يتأثرون بمشاعر وآثار أزماتهم. هذا يعرض الأطفال لخطر نفسي كبير، حيث يصبحون مرآة لانفعالات وقلق ذويهم.
للتخفيف من حدة هذه الأزمة النفسية، اقترح الدكتور فرج البحث عن مناطق أكثر أمانًا وتأمين نوع من الاستقرار المؤقت للأسر والأطفال. كما دعا إلى اتخاذ إجراءات سريعة تضمن الحد الأدنى من الأمان النفسي، مما يساعد على تخفيف الضغط النفسي على الأطفال.
وفي ختام حديثه، أشار إلى أن الأزمة الحالية تمثل كارثة حقيقية في تاريخ لبنان، حيث يعيش الناس في حالة من عدم اليقين وغياب الحماية، مع انهيار المؤسسات وتخلي الدولة عن مسؤولياتها.
هذه الظروف الصعبة تتطلب من المواطن اللبناني البحث عن مصادر قوة نفسية لمواجهة الحياة في ظل هذه التحديات القاسية، التي لم يشهد لها مثيلًا من قبل.
وفي حوار أجري مع المتخصصة في علم النفس، تريز غالب، تحدثت بشكل مفصل عن الآثار النفسية للحرب على اللبنانيين، حيث أشارت إلى أن الشعب اللبناني يعيش تحت وطأة صدمات متتالية ناجمة عن الحروب المتكررة التي شهدها لبنان.
وأضافت أن هذه الصدمات تتسبب في اضطرابات نفسية خطيرة مثل اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، مما يؤدي إلى حالة دائمة من التوتر والقلق.
وأوضحت أن هذه الحالات ليست فقط نتيجة للحرب نفسها، بل أيضًا نتيجة للخوف المستمر من المستقبل المجهول الذي يظل يلاحق الأفراد.
غالب أشارت إلى أن هذه الاضطرابات النفسية تنعكس سلبًا على الصحة العامة للبنانيين، حيث يتعرضون للاكتئاب المزمن والقلق، مما يؤدي إلى تدهور العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع وأن هذه الاضطرابات تساهم في تفكك المجتمع وانقسامه على أسس عرقية، طائفية، أو سياسية، وهو ما يزيد من تعقيد الوضع الاجتماعي والإنساني في لبنان.
تحدثت تريز عن التأثيرات السلبية التي تتركها الحرب على الأطفال في لبنان، حيث أكدت أن هؤلاء الأطفال يتعرضون لاضطراب ما بعد الصدمة نتيجة مشاهد العنف التي يشاهدونها و أن العيش في مناطق قريبة من مواقع النزاعات المسلحة يزيد من شعور الأطفال بالخوف والقلق، مما ينعكس على حياتهم اليومية، حيث يعانون من صعوبة في النوم وكوابيس متكررة.
وأوضحت أن هذه التجارب تؤثر سلبًا على النمو العقلي والعاطفي للأطفال، حيث يصبح لديهم صعوبة في التركيز وتأخر في الأداء الأكاديمي، بالإضافة إلى ظهور اضطرابات سلوكية مثل العدوانية. كما أن الأطفال الذين يفقدون أفرادًا من عائلاتهم أو أصدقائهم بسبب الحرب يواجهون صعوبات في بناء الثقة وتطوير علاقات صحية مع الآخرين، مما يعزز شعورهم بالانفصال والعزلة.
أكدت إلى أن أهمية الدور الذي يجب أن يلعبه الأهل في حماية أطفالهم من التأثيرات النفسية السلبية للحرب. أولى الخطوات التي ينبغي اتخاذها هي تأمين بيئة آمنة ومستقرة للأطفال، والحفاظ على روتين يومي ثابت يمنحهم شعورًا بالاستقرار. كما أكدت على ضرورة التواصل المستمر بين الأهل والأطفال، حيث يجب أن يكون الأهل دائمًا مستعدين للاستماع إلى أطفالهم والإجابة على أي تساؤلات لديهم بشكل واضح ومطمئن.
وشددت على أهمية تشجيع الأطفال على البقاء على اتصال بأصدقائهم والمشاركة في الأنشطة الاجتماعية، بالإضافة إلى مراقبة صحتهم النفسية والجسدية. وأوصت الأهل بمراقبة أي علامات تدل على اضطراب ما بعد الصدمة لدى أطفالهم، مثل التراجع في الأداء الأكاديمي، أو صعوبة في النوم، أو الانسحاب الاجتماعي، واللجوء إلى الأنشطة التي تساعد على تفريغ التوتر مثل الرياضة أو الرسم.
اختتمت تريز حديثها بالتأكيد على أن الجيل الحالي في لبنان، الذي نشأ في ظل الحروب المتكررة، يواجه صدمات نفسية مزدوجة نتيجة لتراكم الأزمات، بدءًا من الحرب وصولاً إلى جائحة كورونا. وأوضحت أن هذه التراكمات تزيد من حدة العزلة والخوف والقلق، في ظل انهيار الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، مما يجعل من الضروري توفير دعم نفسي واجتماعي مكثف لهؤلاء الأطفال والشباب لمساعدتهم على تجاوز هذه الأزمات المتلاحقة.