الشاعر هنري زغيب
بعد دهرٍ من أَسابيعَ سلحفاتيةٍ مطَّاطة، خرجتُ أَمس من الحَجْر، وكان طبيعيًّا أَن تكون وُجهتي الأُولى الحبيبةُ بيروت، هرعتُ إِليها بلَهفة العاشق المشتاق إِلى شَم عَينَي نجمته الوحيدة في سماء العُمر.
كما كان طبيعيًّا أَن أَمُرَّ بشارع الحمراء، وهو قبل الحجْر كان مَعبَري اليومي إِلى مكتبي في الجامعة اللبنانية الأَميركية LAU.
قلتُ أَتأَمَّلُه كيف خرَج من الحجْر هو أَيضًا. ولم أَحسَبْ أَنْ سيستوقفُني فيه مشهدٌ حمَلَني، كما في حلْمِ يقظةٍ فريدة، إِلى سماء صغيرة عنوانُها شارع الحمراء.
ها أَنا أَمشي بين رقراقة جدولٍ بشريٍّ نضِرٍ مياهُهُ شلَّة من صبايا وشبابٍ تُطلُّ بسمةُ الفرح من كتمان كِماماتهم، وتُزغردُ هتْفَة الحياة من أَيديهم المتماسكة، فيما يتَّجهون إِلى غدهم بخطواتٍ وُثقى على رصيف الأَمل، جادِّين إِلى باحة الوطن يزرعون فيها بذور مستقبلهم زاخرةً بلبنانهم خارجًا من محنته إِلى استعادة الحياة اللبنانية كما كانت في أَزهى فصولها.
أَمشي بَعد، تظلِّلني غيومٌ خضراءُ من أَشجارٍ تُقَنْطِرُ الطريق فوق الرصيفَين، تنهملُ منها عليَّ أَزرارُ المانيولا البيضاء، وشفاهُ الجَكَرَنْدا البنفسجية، وتوهُّجاتُ العَنْدَمات الحُمر (Flamboyantes) فأُحسني أَمشي في فردوسٍ من زوغةِ عطورٍ تُزقزقُ حَولي وفوقي كأَنها سقفٌ ملوَّنٌ من زهور المدينة تحميني من شمس الواقع الحارقة.
وأَمشي بعد، مُشيحًا عن كتاباتٍ جدرانية لا تُشبه أَصالةَ بيروت ولا البيارتة، وأَبحث عن أَعراس الفتنة والياسمين كانت تستقبل الزوَّار على المداخل من بيوت بيروت. خشيتُ أَن ينقضي مني شارعُ الحمراء دون أَن أَجدَها، حتى أَطلَّت باسمةً مُشرقةً كَضَوءَةٍ من فجر لبنان. رأَيتُها وهَنِئْتُ واقفًا أَتأَمَّلها: ها هي زهرةُ ياسمين، بين أَصابع الرسامة اللبنانية هوغيت كالان في جدرانية عملاقة على طول بنايةٍ عاليةٍ تعلو كأَنْ كي تُصافحَ الشمس. وإِذ أَتملَّى وريقات الياسمينة تأْرج بِنَسمة الحب من وجه هوغيت، أَرى حَدَّها وجهًا آخرَ طافحًا بالحياة من بسمة إِملي نصرالله كأَنما تُلوِّح لطيور أَيلول. وفي الجدرانية خلْف وجْهَي هوغيت وإِملي، فتاةٌ أَرخت شَعرَها لصباح العمر، وراحت تَرسم أَحلامها الطرية على وجه دفتر.
ودِدتُ لو أَحمل تلك البناية في قلبي، وأُوزِّع نَبضها من شارع الحمراء إِلى بيوت بيروت وشوارع لبنان.
في طريق عودتي، راحت تُدَنْدِنُ في بالي ميلوديا أَنَّ أَشجارَ بيروت على صورة أَهل بيروت طِيبةً وأَصالةً وعراقةً، هم الذين يحرسون بنَبْضهم مدينتَهم الجميلةَ الساحرةَ التي، مهما أَمعنَت في أَذى وجهها أَيادي الشر البائدة، لن تُشوِّه خُلودَها ولا طيبتَها ولا عراقتَها، وستبقى بيروت مَلِكة الملِكات طالعةً من فيروز البحر، حاملةً لُؤْلُؤَه وياقوتَه، تُهدي إِلى قلوب اللبنانيين نُبْل عاصمتهم، وتُطمْئِنُهُم أَنها، كجذع الأَرز، خالدةٌ في الزمان إِلى آخر الزمان.
|
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp)
اضغط هنا