نداء الوطن
جورج العاقوري
غالباً ما تدفع الدول ضريبة التاريخ والجغرافيا، فكيف متى استُحضر التاريخ عبر إسقاطات في الجغرافيا كما هي الحال مع إنشاء دولة إسرائيل؟! هذا هو واقع لبنان، حيث شكّل نجاح مشروع الصهيونية العالمية «تعويذة لعينة» لا تنفك تطارده خصوصاً جرّاء هشاشة بنيته وتفوّق هوية مكوناته المجتمعية على الهوية الوطنية.
فالقضية الفلسطينية أرخت بثقلها على أكثر من دولة عربية، إلا أنّ حصة الأسد كانت للأردن ولبنان. لكن فيما نجح الأول باستلحاق نفسه والحفاظ على هيكله الدولتيْ ومصالحه، فشل الثاني بعدما أضحى ساحة مستباحة والسبب الأول الشرذمة الداخلية حيث طغت الولاءات الطائفية والعروبية على الولاء للوطن.
فقدان المناعة الوطنية من جهة والحكم الاخطبوطي من جهة أخرى (للأخطبوط ثلاثة قلوب كما للبنان ثلاثة رؤساء عملياً منذ ما قبل الطائف)، جعلا القوى الفلسطينية تستفيد من ذلك عبر ممارسة شراهة لامحدودة في فرض النفوذ لا بل وقاحة في استباحة الدولة واستغلال حسن الضيافة. مقارنة بسيطة بين لبنان والأردن منذ بدء الكفاح الفلسطيني في ستينات القرن الماضي تثبت ما جاء أعلاه.
الأردن ولبنان عانيا من انتهاكات المنظمات الفلسطينية لسيادتهما على أرضهما ولعبها على التمايز أو ربما التناقض في بنيتهما. كذلك، عانيا من مساعي تحويلهما إلى «وطن بديل» ومن الاستفادة من المناطق الحدودية - كإنشاء «فتح لاند» - لجعلها منطلقاً للعمليات الفدائية في العمق الفلسطيني المحتل ومن تحويلهما إلى صندوق بريد.
الأردن كما لبنان عانيا من تدخل الأنظمة العربية الداعمة لـ»منظمة التحرير» وتحوّلها إلى دولة تفوق الدولة منتهكة أركانها الثلاثة: الأرض عبر استباحتها. الشعب عبر زرع الشقاق في أوساطه واللعب على التناقضات واستمالة مجموعات منه. النظام عبر ضرب هيبته أولاً والعمل على تفكيكه خدمة لمشروعها. هذا ما حصل في الأردن عبر السعي الحثيث للإطاحة بالملكية الهاشمية ومحاولات إغتيال الملك حسين وبالنظام اللبناني من خلال إستغلال الحقد التاريخي التراكمي من قبل شريحة لبنانية واللعب على وتر الحرمان والإجحاف والإصلاحات البنيوية المرجوّة.
في الأردن، ضربت القوات المسلحة الأردنية بقيادة الملك حسين بيد من حديد المنظمات الفلسطينية بين 16 و27 أيلول 1970 وتصدّت بشراسة للتدخل العسكري السوري على أرضها دعماً لتلك المنظمات وألزمته على الانسحاب. فكان «أيلول الأسود» أو «أيلول السيادة» الذي امتدت إرتدادات مواجهاته حتى تموز 1971 حين تمّ القضاء كلياً على المنظمات الفلسطينية وسُمح للفدائيين بالتوجه إلى لبنان.
أما في لبنان، فانتهاك سيادة الدولة والتطاول على القوى الامنية والإعتداء على الجيش اللبناني انتهت عقب الجولة الأولى للمواجهات الدموية بين الطرفين بتشريع ممارسات الوجود الفلسطيني المسلّح عبر «إتفاق القاهرة» في 3 تشرين الثاني 1969، ثم بعد جولة أخرى عبر «إتفاق ملكارت» في 17 أيار 1973، وصولاً إلى الانفجار الكبير في 13 نيسان 1975.
في كل مرة كان الجيش البناني يُمنع من بسط سلطة الدولة وفرض هيبتها والضرب بيد من حديد كما في الأردن ويهدّد بأن يتمّ تقسيمه. في كل مرة، كان يعتكف رؤساء حكومات ووزراء دعماً للمنظمات الفلسطينية أو حتى يؤيدون وقوف الرئيسين السوري حافظ الأسد والمصري أنور السادات إلى جانب الفلسطينيين ضد الجيش اللبناني كما في عام 1973. فنجح الأردن ونجا حيث أخفق لبنان وهلك.
للأسف، بعد أكثر من نصف قرن، يتكرّر المشهد عقب الحراك الشعبي في لبنان والاردن دعماً لـ»طوفان الاقصى» على وقع الدعوات لـتطبيق نظرية «توحيد الساحات». ففيما الملك عبد الله الثاني بن الحسين الهاشمي نسف بخطواته الاستباقية هذه النظرية قبل ولادتها على أرضه، تعلو أصوات لبنانية من قوى وازنة كـ»حزب الله» ومن يدور في فلكه مؤكدة صوابية هذه النظرية المنتهكة لسيادية قرار الحرب والسلم وداعمة لها.
في الأردن كما في لبنان، شهدنا حراكاً شعبياً وأعمال شغب. ففيما جزمت المملكة بأنها لن تسمح بأيّ تجمعات احتجاجية تنطلق باتجاه المناطق الحدودية وأكدت وزارة داخليتها أنها «ماضية في عملها لحفظ أمن المواطنين والحفاظ على الممتلكات والمقدرات» ومنع «أي تجمعات في أي من المواقع والأماكن التي قد تعطل مناحي الحياة أو تسبب خطورة على المواطنين»، ها هي السلطات اللبنانية تكتفي بمواقف كلامية رافضة للشغب وتتفرج على مصادرة قرارها بالحرب والسلم وعلى الاشتباكات المضبوطة حتى اللحظة جنوباً على وقع تقاطع المصالح بين «حزب الله» والجيش الاسرائيلي تحت ستار «قواعد الاشتباك» المفتوحة على إقحام لبنان في الحرب.
في سبعينات القرن الماضي، كان هناك من يعتبر أن «طريق القدس تمر بجونية» وأنّ «الفلسطينيين هم جيش المسلمين في لبنان والميثاق الوطني عام 1943 لم يكن سوى حادث عرضي» وأنّ كل الأمور مباحة خدمة للقضية الفلسطينية و»لا مصالح أوطان تعلو فوق مصلحتها». للأسف اليوم، في العام 2023 هذا المنطق يتكرّر وفق شعارات مشابهة، فهل نحن شعب لا يتعظ أم لم نرق بعد إلى مصاف المواطنين؟!