النقيب السابق للمحامين في طرابلس، الوزير السابق رشيد درباس
يأتي "بابا نويل" إلى بيوتنا حاملاً البهجة والهدايا، ثم يغادرنا مخلّفاً وراءه أصداء ضحكته وجَلجَلةَ أجراسِه؛ لكننا في كل عام نصحو صباحًا على "دراكولا" الذي ما زال مقيماً بيننا منذ نصف قرن يمصّ دماءنا ويطفئ الأمل في أجيالنا ويكسر عظامنا.
سَلِمَت عظام العالميْن المعلّميْن حسن الرفاعي وجوزف شاوول، فلقد اتصل بي كل منهما مستفسراً عما جرى لي فأجبتهما: كانت قلّة انتباه، ولم اسألهما عن سبب كسورهما، ذلكم أن ناساً كثيراً لهم عيون ولا يرون، وفي كل يوم يتعثّرون، فيما ناس قليل جداً كالعالميْن المعلّميْن لهما البصيرة والباصرة وهما منافسان لزرقاء اليمامة في رؤية البعيد البعيد.
إن الأستاذ حسن و PRESIDENT جوزف أفنيا عمريهما في البحث الدستوري وفي القانون العام وفي ربط الأمور بالسياسة لما لهما من حصافة هائلة، وقد أوصلتهما رؤاهما إلى أن المنحى السياسي الدستوري الذي تسير عليه الأوضاع اللبنانية مفضٍ حتماً إلى خراب للدولة الثمينة قد يصعب ترميمه.
وربما قالت لي مخيّلتي أن خيطاً رفيعاً يربط بين حدة البصر وهشاشة العظام، فالذي يرى قبل سواه يُصاب قبل سواه، وعلى هذا فإنني أعتبر أن ما أصابهما هو من قبيل الكسور الدستورية قبل أن يكون كسور عظام، فهذه يرمّمها الأطباء الناجحون وهم كثر، أما كسور الدستور فلا ينفع فيها الجبرُ ولا الضّمادات، ولا يفيدها بالطبع بعض (علماء) هذه الأيام الذين يملأون الشاشات وقد سبق اسم كل منهم لقب الخبير الدستوري، فيما الخبرة محتاجةٌ إلى إنجازات تؤكدها، وقد لا تكون - مع ذلك - دليلاً قاطعاً على الكفاءة، فما بالك بدعيٍّ لا يحمل الخبرة ولا يحمل الكفاءة ولا يكف عن التشدق بما لا يعرف، من غير أن ننكر ألمعية بعضٍ وجدارة بعض آخر.
كيف تريدون لحسن الرفاعي حارس الدستور وشريك الطائف وضليعه بمزاجه المعروف وصلابته بالحق وتوقّد ذكائه، أن يرى تلك المهزلة المستمرة ويبقى على حاله، فلا ينفجر أو ينكسر؟ وجوزف شاوول الذي قال لي مرة إنه يدرس كل يوم عشر ساعات، ثم يكتشف في نهاية اليوم أنه ما زال على ضفاف المعرفة، كيف له وهو الوزير ورئيس مجلس الشورى وعميد كلية الحقوق أن يكون لامبالياً تجاه ما يجري للعلم وللقانون وللوطن وللدولة؟ لقد إلتوت قدمه من حيث لم يعلم فوقع عاجزاً عن الحركة لمدة أرجو أن لا تطول، لكنّ الصديقيْن الكبيريْن والمعلميْن اللذيْن اعتز جدًّا جدًّا بمحبتهما، هما الدليل الحاسم على فشل دولة لا تلجأ إليهما للنصح والإرشاد، ذلك أنه عندما يصاب الدستور بخلل خطير نلجأ إلى نطاسيّي العلم الدستوري، ومن غيرهما يستطيع أن يدلّنا على الطريق الصحيحة وأن يلفتنا إلى خلل ما يجري لنا وخطورته، فنحن نهمل علماءنا وعارفينا ونذهب إلى الزعانف والعرافين ومستطلعي النجوم ونستنبط الخزعبلات ونحول صندوق الانتخابات إلى صندوق فرجة لا يلتف حوله إلا الصبية، ففي كل خميس يذهب الأطفال الى عيّنات من ذلك الصندوق المخلّع ليسمعوا: "قم تفرّج يا سلام على عنترة وأبي زيد الهلالي والزير سالم"، ثم بعد ذلك ينتهي المشهد وينصرف المتفرجون إلى صندوق آخر في ليل آخر.
هشاشة العظام داء يمكن علاجه، أما هشاشة الوطن فمحفوفة بخطر انكسار العمود الفقري الذي قد لا نجد فرصة جديدة لترميمه.
تحياتي إلى الصديقين وأرجو لهما شفاءً عاجلاً، ودواءً ناجعاً ومسكِّناً يخفف آلام العظام يفيدهما ويفيدني، ولكنني أعلم تمام العلم أنهما لن يجدا مسكِّناً لآلامهما الدستورية إذ كثيراً ما يهرب المتألم من وجعه إلى فقدان الوعي إنكارًا للواقع الذي هو الأدرى به والأبعد عن نكرانه والأكثر شجاعة لمواجهته والأنقى سريرة في تجاوزه.
كلمة أخيرة، تُرى ألم يكن الأسهل على الحضرة السياسية لو احتكمت إليهما بدل الاحتكام إلى الجهل المفضي بأهله على النار.