الجمهورية
د.مصطفى علوش
«ودخلت في بيروت... من بوابة الدار الوحيدة شاهرًا حبي ففرّ الحاجز الرملي... وانقشعت تضاريس الوطن من أين أدخل في الوطن... من بابه من شرفة الفقراء أتيت يا وطني صباح الخير... كيف تسير أحوال القرى والقمح والثلج العظيم... مجدنا والأرز يا وطني... يا وطني أريدك عاليًا كالغصن... وأريد ان أفديك وأطلق ما في قلبي من رصاص ... ضدّ هذا الرقص فوق الرمل... وقسموك ولم توافق... قسموك ولم توافق وانتزعتك من بنادقهم... بأن أعلنت وقتي... حيث ينطفئون صوتي حيث... ينهدمون بيتي... حيث ينهدمون». (حسن العبد الله)
تعبير الأمة فريد من نوعه في اللغة العربية، وقد لا نجد رديفًا له في أي لغة أخرى من ناحية المعنى العام. فهناك مثلًا في لغات أخرى، نجد تعبير إتنية أو دين أو عرق لوصف واقع ما مرتبط بشعب ما أو دولة أو مجموعة مرتبطة اجتماعيًا وسياسيًا، وتصبح في العصر الحديث دولة معترفًا بها وبحدودها، ليصبح الشعب أو المواطنون، هو التعبير الذي يجمع الناس في بلد محدّد، وهو أيضًا تعبير قانوني محلي ودولي ترتبط به مجموعة من الحقوق والواجبات العامة، منها المحلي أو السيادي، ومنها الدولي. ولكن، عند البحث في أصل كلمة أمّة، نلاحظ أنّ معاجم اللغة العربية عدّدت ثمانية عشر معنى منها: «لواء الشيء، الأصل في كل شيء، الدين، الملّة، خلق الله، الملك، النعمة، العالم، القوم، الجماعة من الناس...»، كما أنّ لفظة أمّة وردت خمسين مرة في القرآن الكريم، وحملت في طياتها معاني عدة، منها تكويني واجتماعي وديني وتاريخي وسياسي. ويعتبر كثيرون أنّ كلمة أمّة تتخطّى في مدلولاتها تعبير دولة، لكونها تحمل دلالات تمتد إلى أبعد بكثير من الحدود القانونية للدولة. وهي، عند المسلمين، تفترض الانتماء إلى حال تتجاوز الواقع الفردي والقانوني والوطني، لتمتد إلى عمق التاريخ وتتجاوز الحاضر إلى المستقبل في العامل الزمني، كما أنّها تتجاوز الحواجز الجغرافية والقانونية، لتصبح حالًا وجدانية لا يمكن تعريفها مادياً أو حقوقياً.
يأتي هنا تعبير طائفة، ليجد أيضًا أصولًا ومعاني عدة، منها، أنّه جماعة أو فرقة أو صنف من الأصناف الحية. وهي أيضًا مجموعة من الناس أقلّها اثنين أو ثلاثة، لكنها في المغزى تفترض الانعزال والتفرقة عن المحيط والانطواء على الذات لمجموعة ما بنحو دفاعي في مواجهة مع آخرين لأسباب عدة قد تكون سياسية أو اجتماعية وعرقية أو دينية أو ثقافية، أو كما هو مطروح اليوم من خيارات جنسية، أو خليط مما سبق. وهو ما يصبح مشمولًا اليوم تحت لواء التنوع الثقافي والتسامح مع مظاهره.
الإشكال في الحالتين يركن في طريقة إيجاد مكان لسكينة المواطنة، أي أن يكون للمواطن مسكن في وطن معيّن، بدل ان تكون إقامته في مرقد مؤقت في انتظار أن تجمعه الأمّة في وقت ما في المستقبل، أو التقوقع الدفاعي للحفاظ على النوع وتجنّب الذوبان في ظلّ المواطنة. وفي الحالتين، نرى الأمّة والطائفة في حال انتظار ممل عادة، يُترجم في عدم الإقدام على شيء ما في انتظار حدث يأتي من عالم الغيب، أو رجاء من قوة من خارج المألوف، أو أمل مرضي يجعل من الانتظار نوعًا من الشلل العملي والعقلي. بالنتيجة، تصبح الطائفة التي تنتظر حلول زمن الأمّة مثلها مثل الأمة التي تنتظر فرج العودة إلى ماضٍ متخيلٍ وأسطورةٍ منسوجةٍ تتناقلها التقاليد الكلامية، وتوهم بمستقبل يشبه الكوابيس «الأبوكاليبتية» التي تنذر بنهاية عالم ونشوء عالم جديد، تكون فيه الفئة الناجية هي المنتصرة.
في لبنان، طوائف تنتظر العودة إلى حضن الأمّة، وأخرى تعتبر نفسها الفئة الوحيدة الناجية، أو أنّها نوع من المخلوقات المعرّضة للفناء عن طريق الاندماج مع أجناس أخرى من المخلوقات، أي الناس «الآخرين». هذا التنوع الذي نسميه زورًا «تعددية ثقافية»، هو الذي جعل من كل «جنس» من الأجناس التي أُسقط وجودها في هذه البقعة الضيّقة من الأرض هي لبنان، يتجنّب الاستسلام للمواطنة والسكن في وطن مع آخرين متساوين، ليصبح التعدّد الثقافي فيه مسألة فردية، لا تخص «جنسًا» واحدًا من الأجناس، أي ثقافة لطائفة تنتظر الفرج الآتي عن طريق فارس أو مخلّص أو حدث أسطوري، كالزمن المسياني الذي ينتظره حتى الآن بعض اليهود، وكان هذا الانتظار هو الذي منعهم من الاندماج في «غويم» الآخرين في أوروبا، إلى أن اغتصبوا لهم وطنًا في فلسطين، على حساب شعب، ما زال ينتظر حتى اليوم عودة الأمّة الظافرة، لكن الزمن لا يحسب حسابًا للمنتظرين.
قد يظن البعض أنّ الطائفة هي عكس الأمة، وأنّ الطائفة انطواء وتقوقع، في حين انّ الأمة انفتاح على الأفق الرحب، لكن النتيجة هي نفسها، أي الانفصال عن الواقع وهدر الوقت المتاح للسكن في وطن يمكن من خلاله وفيه تحقيق أكبر مقدار من السعادة في الفترة الممتدة بين الولادة والموت، في عالم فيه بشر آخرون يسكنون في وطن ويتشاركون فيه مع مواطنين آخرين.
في لبنان اليوم ثلاثة أجناس من البشر: جنس يخاف من الانقراض النوعي فينطوي على ذاته كما تفعل القواقع، وجنس خرج من القوقعة لينسب نفسه ويهبها إلى أمة، معتبرًا الوطن مجرّد محطة، وجنس ثالث كان يتجاوز السكن في وطن لكونه جزءًا من أمّة، ولما طال الانتظار عاد للقوقعة في انتظار الفرج من عالم الغيب. بين كل تلك الزواريب الضيّقة أسأل مع الشاعر حسن العبد الله «من أين أدخل في الوطن».