محمد بلوط - الديار
يشعر الذين شاركوا او تعاطفوا مع «انتفاضة 17 تشرين الاول» في العام 2019 بخيبة كبيرة بعد تبخّر احلامهم بالتغيير. وفي الحقيقة ان هذه الخيبة ليست مستجدة او وليدة الساعة، بل هي سلسلة خيبات متراكمة اصابت اللبنانيين بالتوالي، منذ تراجع وضمور الحراك الشعبي بشكل تدريجي الى حين اختفائه وتلاشيه اليوم رغم تردي الاوضاع والانهيار غير المسبوق الذي تشهده البلاد.
في الايام الاولى من الانتفاضة نزل عشرات الالوف الى الشارع في حركة احتجاجية شعبية على الاوضاع الاقتصادية والمالية والاجتماعية، واستطاعوا ان يفرضوا حضورا قويا في الداخل والخارج مقابل تراجع قوى السلطة بكل صفوفها وتصنيفاتها. لكن بعد فترة قصيرة تحولت الانتفاضة الى مربعات او دوائر بسبب الخلافات التي نشبت بين الذين شاركوا فيها، وتلك التي زرعتها قوى سياسية ارادت مصادرة ارادة المنتفضين وتحويل مسارهم باتجاه شعارات اخرى تخدم توجهاتها ومصالحها.
ويعلم الجميع كيف دخلت العوامل السلبية على هذه «الثورة الشعبية»، وبدأ حرف مسارها باتجاه شعارات سياسية تتجاوز اسباب اندلاعها وتحدث انقسامات في جسدها، فانقسمت الساحة الى ساحات ومربعات ودوائر، وتنوعت الخيم التي زرعت في كل مكان، وتوالت الانتكاسات، خصوصا بعد تفخيخ هذا الحراك الشعبي بمجموعات مأجورة افسدت كل شيء، وحرفت الانتفاضة عن اهدافها واسقطتها في مستنقع العنف العبثي.
وبقيت الآمال للمراهنين على هذه الانتفاضة معلقة على الاستحقاق الانتخابي لاستثمار النقمة الشعبية في صناديق الاقتراع، لكن ما جرى ويجري عشية هذا الاستحقاق ضاعف خيبات الامل، نتيجة التشتت والانقسامات التي مزقت مجموعات وجماعات الناشطين السياسيين والقوى التي قدمت وتقدم نفسها بديلا لقوى السلطة.
وفي قراءة للواقع الانتخابي لهذه القوى والمجموعات تبرز جملة معطيات وحقائق تؤشر الى عجزها عن احداث خرق جدي في تركيبة المجلس النيابي السياسية. ولعل ابرز الاسباب التي اضعفت وتضعف دور هذه القوى والجماعات في الانتخابات النيابية المقبلة هو غياب المشروع السياسي الموحد الذي يؤطرها في لوائح موحدة قوية في كل لبنان. ومنذ المرحلة الاولى من «الثورة» او «الانتفاضة» كان واضحا استحالة جمع تياراتها في خطاب سياسي موحد، وبدلا من تبني مشروع الحدّ الادنى الذي يمكن ان يوحدها سعى بعضها الى اقحامها في مشروع سياسي انقسامي بتشجيع وايعاز من قوى خارجية وفي مقدمها الادارة الاميركية.
وبعد اقحام بعض هذه الجماعات في رفع شعار محاربة حزب الله وتحميله كل اوزار الانهيار الحاصل بطريقة استعراضية، خصوصا بعد انفجار المرفأ، تأكد ان الانتفاضة فشلت في انتاج معارضة حقيقية موحدة، بقدر ما تحولت الى مادة يراد استثمارها من الخارج والداخل في آن معا.
وقبل شهر ونصف الشهر من موعد الاستحقاق الانتخابي، تبدو هذه القوى والجماعات عاجزة عن تقديم اي نموذج على قدر الآمال التي علقت على «انتفاضة 17 تشرين»، لا بل ان بعضها بات في مواقع اخرى يتوزع على لوائح مختلفة تقودها احزاب تقليدية او رجال اعمال طامحين في الفوز بإرث سياسي طائفي.
وقبل ايام قليلة من اكتمال تشكيل اللوائح في مختلف الدوائر، كيف يبدو المشهد الانتخابي لهذه القوى والجماعات الناشطة ومنها ما يُسمى بمجموعات المجتمع المدني؟
- لم تتمكن القوى اليسارية التي انخرطت ونشطت في الانتفاضة من تشكيل جبهة معارضة موحدة تجمعها مع تيارات اخرى، بسبب الخلافات على المشاريع والرؤى، فتحوّلت الى تشكيل لوائح محدودة او المشاركة في بعض اللوائح الاخرى التي تعتبر الاقرب لها. فهي تدعم على ســـبيل المثال لائحة النائب اسامة سعد في صيدا، وتتعاون في ما بينها وبعض الفاعليات في الجنوب والبقاع والشمال.
- جماعات «النموذج الاوكراني» الذي يحظى بدعم اميركي وغربي: هذه القوى والجماعات شكّلت عددا من اللوائح من دون التحالف مع اي حزب سياسي تقليدي، ووسعت نطاق مشروعها السياسي مركّزة على الشقين: محاربة قوى السلطة، والخطاب السيادي الذي يستهدف عمليا حزب الله وحلفائه.
- جماعات وناشطين انضموا الى لوائح حزب «الكتائب» في تحالف يرمي الى تكوين كتلة نيابية متوسطة تتجاوز عدد اعضاء كتلة «الكتائب» الحاليين، وترفع شعار السيادة والحياد في اصطفاف موجه ايضا ضد حزب الله وحلفائه.
- جماعات ليبرالية، تضم ناشطين يعملون تحت شعار «المستقلين»، ويركزون على تطبيق شعار «كلّن يعني كلّن»، وتعتبر لائحة الشمال الثالثة نموذجا لهذه الجماعات.
- جماعة «مواطنون ومواطنات في دولة»، تضم نشطاء ليبراليين او ذي ميول يسارية، وتركز على الخطاب السياسي الاقتصادي، وقد رشحت 65 مرشحا في كل لبنان، وتتحالف مع الحزب «الشيوعي» في الشمال، لكن هذا التحالف ليس معمما في كل الدوائر.
- التحق بعض الناشطين والجماعات الناشطة باحزاب سياسية في فريقي 8 و 14 آذار، وباتوا جزءا منها في معركتها الانتخابية.
هذا المشهد العام لقوى وجماعات الانتفاضة، يترك علامات استفهام على حجم دورها في الاستحقاق الانتخابي، ويعزز الاعتقاد بان معركة 15 ايار لن تشهد اضافة مهمة عن المعركة التي جرت في العام 2018، غير ان انسحاب الرئيس سعد الحريري وتياره من حلبة هذا الصراع الانتخابي، يساهم في خلط اوراق جزئي في الدوائر ذات الغالبية السنية، ويطرح علامات استفهام حول الاكثرية في المجلس الجديد.