نقولا ناصيف
هل يبدو مصادفة أم توقيتاً مريباً أن يتصاعد الاحتقان في الداخل من فوق ومن تحت في آن، قبل أشهر قليلة من موعد مبدئي للانتخابات النيابية العامة في 27 آذار، إلى الآن على الأقل، ومن موعد واقعي غير محدد بعد في أيار المقبل؟
تُضاعف الكتل والأحزاب جهودها لإبراز خلافاتها وتبايناتها بعضها مع بعض. لا حكومة تلتئم لأن ثلثها المعطل النافذ أقوى من انعقاد ثلثيْها المتبقيين. المجلس الدستوري برسم الانقسام خلال أسابيع. القضاء على وشك الرمق الأخير. بعضه ضد بعض، فيما يواجه من خارجه معركة إنهاء دوره بتغليب السياسة على العدالة. الشارع استعاد احتجاجه، بينما النقابات تتسلى بالتضارب وإعطاب صورتها. هؤلاء جميعاً ينتظرون الانتخابات النيابية العامة بعد أشهر، من غير التأكد من موعدها الذي لم يعد مهماً. مشكلة الاستحقاق المقبل لم تعد قانون الانتخاب، ولا زمانه. بل كيف السبيل إلى التخلص منه؟
وراء كل ما يحدث في الآونة الأخيرة علّة واحدة، تحوّلت فزّاعة الجميع بلا استثناء، بمَن فيهم المكابرون والمتغطرسون والمُهْمِلون. لم تعد أرقام الناخبين القاريين، على أهميتها والقلق الذي بعثته في قلوب أولئك، هي المشكلة فحسب. بل كل ما بات يعنيه اقتراع الانتشار للدوائر الوطنية الـ15، وتحوّله جزءاً لا يتجزأ من الصراعات الداخلية، وفي الوقت نفسه أداة اقتصاص وتصفية حساب، تطاول أفرقاء الطبقة السياسية الحالية وأحزابها.
مع أن الوقت لا يزال مبكراً للوصول إلى موعد الانتخابات النيابية، أو المجازفة بطرح تمديد ولاية البرلمان الحالي بذرائع شتى، إلا أنها بدأت على الأرض قبل أن تصل إلى الصناديق. ليس في وسع أي فريق، أياً يعلو كعبه، الاطمئنان إلى نتائج الاستحقاق قبل حصوله، ولا تجاهل تهيّبه له. ليست الأرقام المفاجئة هي العدو الجديد، بل كل ما يُعدّ من ورائها في الخفاء لإجراء الانتخابات النيابية من بُعد. تماماً على نحو التواطؤ الذي اعتادته الاستحقاقات المماثلة بين زعماء الطبقة السياسية الحاكمة نفسها منذ عام 1992، وصولاً إلى مرحلة ما بعد خروج سوريا من لبنان، إلى الأمس القريب.
مصدر القلق والتهيّب غير المكتومين أسباب شتى، منها:
1 - بحسب الأرقام الرسمية المتداولة، فإن غالبية المسجلين للاقتراع تقيم في مناطق ثلاث بات الآن يصعب السيطرة على تصويتها: أوروبا (74 ألفاً و882 مسجلاً) وآسيا لا سيما الخليج العربي (61 ألفاً و204) وأميركا الشمالية (59 ألفاً و211)، ما يعني أن أكثر من ثلثي المسجلين يقيمون في الدول الأكثر اهتماماً بالانتخابات النيابية اللبنانية، والأكثر تأثيراً في مسارها، والأكثر تدخّلاً ورعاية وتمويلاً لها. الأهم في ذلك كله، أنها الأكثر عداء للغالبية النيابية الحالية، وستكون الأكثر سروراً وارتياحاً أن تراها تتهاوى.
في عداد هؤلاء المسجلين، أرقام إضافية دالّة: الموارنة 77 ألف مسجل بما يوازي ثلث المسجلين القاريين جميعاً، البالغ عددهم 244 ألفاً و422 مسجلاً، بينما المسجلون السنّة 49 ألفاً، والمسجلون الشيعة 48 ألفاً. مجموع هؤلاء، ممثلي المثالثة، 174 ألفاً، فيما يتوزّع ناخبو الطوائف الأخرى (الأرثوذكس والكاثوليك والدروز والأرمن والأقليات) الباقي الذي هو 70 ألف مسجل. في ما تدلّ عليه الأرقام التفصيلية هذه، أن الأحزاب اللبنانية المفترض أنها تمثّل طوائفها، كالثنائي الشيعي والثنائي المسيحي وتيّار المستقبل، هي هدف الرصاصات غير الطائشة.
2 - لم يعد خافياً أن القسم الأكبر المعوَّل عليه في الاقتراع القاري، بات يوصف بأنه ثأري وانتقامي، سواء بالنسبة إلى اللبنانيين المقيمين في الخليج العربي أكثر المصابين بتداعيات أزمة العلاقات اللبنانية - السعودية واللبنانية - الخليجية أخيراً، كما بالنسبة إلى المقيمين في أوروبا والولايات المتحدة وكندا الأكثر تقبّلاً لرفض الطبقة السياسية الحالية في البلاد، والأكثر عداء لحزب الله، في وقت لم يعد خافياً أن إقبال الناخبين المؤيدين للثنائي الشيعي في القارات الثلاث سيكون الأكثر إحراجاً، محاطين بعيون للتأكد من أولئك المجيَّرة إليهم أصواتهم التفضيلية.
3 ـ يتحدّث بعض المعلومات عن حملات انتخابية مضادة، منظمة بدقة في دول الخليج العربي، تقضي بعدم اكتفاء اللبنانيين المقيمين على أراضيها بالتصويت ضد الطبقة السياسية الحاكمة، لا سيما منها الغالبية النيابية الحالية ورأسها حزب الله، بل دعوة هؤلاء إلى اجتذاب أصوات ذويهم إلى التصويت المضاد المناوئ للطبقة السياسية بكل وجوهها. تبعاً للمعلومات نفسها، فإن سلطات الدول تلك لديها جردة واسعة بالمسجلين وميولهم وانتماءاتهم بما يضعهم على المحك، وتحت مراقبتها في محاولة صريحة لتقويض أركان السلطة الحالية.
4 - ليس قليل الأهمية الأخذ في الاعتبار أن اقتراع نصف المسجلين على الأقل، على نحو ما حدث في أول اختبار لاقتراع الناخبين عام 2018 وكانت نسبته 56 في المئة، من شأنه قلب نتائج الانتخابات النيابية اللبنانية رأساً على عقب. ليس قليل الأهمية تصوّر 120 ألف صوت تفضيلي تُصوَّب إلى المغضوب عليهم. أول المصوَّب عليه الثنائي الشيعي، وتحديداً حزب الله، مع أن الأرقام المعوَّل عليها في أفريقيا حيث النسبة الكبرى من المقيمين الشيعة غير مشجعة. بالكاد بلغت 20 ألفاً و127 مسجلاً.
5 - يفصح بعض الانطباعات المعبَّر عنها بما يُنقل عن غضب المسجلين اللبنانيين في الخارج، أن أسباباً شتى تحملهم على التصويت الانتقامي: أولها الذين فقدوا ودائعهم وجنى أعمارهم في الاغتراب في المصارف اللبنانية من غير أن يتحرّك قادتهم وزعماؤهم لحمايتها وغالبية هؤلاء في القارة السوداء. ثانيها الذين أضحت صلتهم بوطنهم الأم وعائلتهم تقتصر على حوالات مالية لإنقاذ عائلاتهم من عوز تسبب فيه نهب الطبقة السياسية وفسادها، وهم يتجمعون في دول الخليج العربية. ثالثها المناهضون لحزب الله المتأثرون بالسياسات الأوروبية والأميركية.
ليس خافياً في الفئات الثلاث هذه، أن مجالس الجاليات اللبنانية ومجالس التعاون الثنائي أو تلك ذات الصلة بالعلاقات الاقتصادية، تضطلع بدور العرّاب في الوصول إلى الاقتراع الثأري.
6 - رغم أن أرقام التصويت الاغترابي في دورة 2018 صبّت في معظمها لمصلحة الأحزاب وماكيناتها الانتخابية والجولات التي قام بها على بلدان الانتشار مسؤولون حزبيون للحض على الاقتراع لها، بيد أن انتخابات 2022 تبدو الآن، في ظل معطيات الانهيار الداخلي وتفكك التحالفات التي راجت في انتخابات 2018 وبالكاد عمر العهد سنة ونصف سنة، على طرف نقيض من التوقعات الحالية. على نحو أقرب ما يكون إلى انتخابات 2005 عندما كان للغرب، وخصوصاً الأميركيين والفرنسيين، تأثير مباشر في إجرائها وقلب توازن القوى الداخلي رأساً على عقب، وكان السفيران الأميركي جيفري فيلتمان والفرنسي برنار إيمييه يديرانها من الداخل اللبناني ويصنعان التحالفات، وكانا ضالعين في فرض انتقال الغالبية النيابية إلى قوى 14 آذار، تدار انتخابات 2022 من الخارج أكثر من الداخل، بسلاح استحدثه الداخل مرشح لأن ينقلب على صانعيه.
أما ما يمكن أن يقوّض التوقعات هذه، فهو أكياس اقتراع الانتشار عندما تصل إلى لبنان، وتُحتجز في مصرف لبنان كي يصير إلى فرزها بالتزامن مع الاقتراع الوطني. إذذاك، كما رافق انتخابات 2018، لكل كيس قاري كيس وطني!