المواطن المنهار بين الاحتكار والاحتقار
المواطن المنهار بين الاحتكار والاحتقار

خاص - Sunday, August 29, 2021 11:20:00 AM

الشاعر هنري زغيب

 

بين أَسوإِ ما يهاجمنا في هذا الزمن اللبناني القاتل أَن نُصْبحَ على مشكلة ونُمسي على أُخرى، وأَن ننامَ على هَمٍّ ونصحو على هَمٍّ أَكبَر.

لم تَعُد التحية "صباح الخير" بل "كم ساعةً وقفتَ في صفوف البنزين"، ولم تَعُد "مساء الخير" بل "هل عند مولِّدكم مازوت لبقيَّة هذا الليل"؟

ويمتدُّ الاحتكار من محالِّ التجار إِلى مستودعات الأَدوية إِلى صهاريج البنزين إِلى مخبَّآت المازوت. ويلتفت المواطن إِلى الدولة وحلُولها فيجدُ حلُولَها احتقارًا في كل ما تقوم به: تكتشف تلفزيونيًّا مستودَعًا لا تَعتقل صاحبه، تكْشِف إِعلاميًّا عن صفْقة لا تُحاكِم فاعلها، تستكشِف شعبيًّا عن فضيحة لا تُدخِل مرتكِبَها السجن لأَنه محميٌّ بزعيمه.

وينهار المواطن يأْسًا بين الاحتكار والاحتقار.

لم يعرف اللبناني ظاهرةً أَقبحَ من احتقار السلطة ذكاءَه، إِذ تُعلِّق انشدادَه إِلى الخلاص على ظواهرَ سورِّيالية خيالية فوقَ أَيِّ تقدير: ففيما زعماءُ العالم وأَصحاب القرار المالي والاقتصادي يحملون مساعداتهم وينتظرون ويردِّدون ويشدِّدون على ضرورة الإِسراع في تشكيل الحكومة كي تَبدأَ المساعدات، يتوالى احتقارُ السلطةِ ذكاءَ مواطنيها بتسميرهم يوميًّا أَمام الشاشات ينتظرون الدُخان الأَبيض وانفراجَ التشكيلة، فإِذا يَصفعُهم واقعُ الأَمر بأُلْهيات عَبثية كأَن يُصبح البارومتر وجهَ الرئيس المكلَّف التشكيل: وصَل، دخَل، خرَج، ابتسَم، عبَس، صرَّح، لم يصرِّح، وعَدَ،... ويروح الإِعلاميون يَعُدُّون الزياراتِ وعددَ الدقائق لكل زيارة، ومع كل زيارةٍ آمالٌ موعودة وخيباتٌ موؤُودة، والمواطن ينتظر ويكتوي بحرائق الأَسعار والدولار، والماء والدواء، ومقطوعية المولِّد وقطع الكهرباء، والمسؤُولون آخذون وقتَهم في التشكيل والتحليل والتبديل، يتشاطرون ويتشارطون ويَتَشَطْرَجُون (من الشطرنج) على حقيبةٍ مفروضة وحقيبةٍ مرفوضة، على اسمٍ مقبول واسمٍ مرذول، هذا يقترحُه الرئيسُ المكلَّف يرفُضُه رئيس الجمهورية، ذاك يريدُه رئيسُ الجمهورية يرفُضُه الرئيس المكلَّف، وينتهي اللقاء إِلى موعد جديد للتشاوُر والتداوُر والتحاوُر والتناوُر، كأَننا في أَزهى سنوات العز والرخاء وكأَنَّ الشعبَ ضجرانُ من كثْرة البَطَر، بينما الشعب مقهور ينتظر، والشعب مكسور في الشارع، والشعب محرور على أَبواب المستشفيات، والشعب مبتور ولا أَحدَ ينظر إِليه مسحوقًا بين الاحتكار والاحتقار، يتابع مشاهدَ دهْم مستودعات الموت المخزَّن بالبنزين والمازوت والدواء، كأَن المحتكِر محتقِرٌ كلَّ مَن حوله وكلَّ مُدَوَّنٍ في الكتُب السماوية وسُنَن شرائع الإِنسان.

مواطنٌ منهار بين احتكار واحتقار. وبين الاحتكار والاحتقار حرف رقيق وحرف ثقيل، ووقْع الحرفَين قهَّار مميت، تمامًا كما بين التخريب والتهريب، حرف واحد لوصف واقعٍ تحترق فيه أَعصابُ اللبنانيين وجيوبُهم وآمالُهم وآمالُ أَبنائهم المهَرْولين بالمئات إِلى المطار لا ملتَفِتِين حتى إِلى وداع ذويهم.

حرفٌ واحد، ويتغيَّر كلُّ الواقع. وعلى هذا الحرف سيضَعُ الشعب نقطةً من قهْره وينتفض، فتَرتَدُّ نارُ الحريق على مُشْعِليها، وينطلقُ عهدٌ جديد، لا بدَّ أَن ينطلقَ عهدٌ جديد، من تلك النقطة على الحرف.

| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) اضغط هنا

 

تسجل في النشرة اليومية عبر البريد الالكتروني