هيام القصيفي
مع انعقاد اللقاء المسيحي في الفاتيكان، ثمة محاولة مسبقة لإفراغه من مضمونه الحقيقي ورمي الكرة في ملعب الكرسي الرسولي. في المقابل، يفترض مراجعة حقيقة دور المسيحيين في مسؤوليتهم عن الانهيار الحالي وعن كل ما هو مطلوب منهم في عملية الإنقاذ
مع وضع اللمسات الأخيرة لانعقاد اجتماع البابا فرنسيس ببطاركة لبنان، تجرى محاولات جدية لحرف المبادرة الفاتيكانية عن هدفها الحقيقي، لغايات سياسية وشخصية، كما استهداف العاملين عليها وتوظيفها في المماحكات المحلية. وهذه المحاولات من مواقع سياسية أو دينية، تسعى إلى وأد ما يريده الكرسي الرسولي فعلياً من اللقاء، سواء لجهة التوجه الوطني العام، أم الترجمة العملية المتعلقة بقطاعي التربية والاستشفاء اللذين يعوّل عليهما. والمشكلة الحقيقية منذ أن تمت الدعوات إلى اللقاء، أن ما يقال في دوائر ديبلوماسية فاتيكانية جدية لم تدخل في لعبة المصالح الضيقة، يعكس حقيقة مسؤولية المسيحيين في عدم تقديم رؤية واضحة عن خطط الإنقاذ الاجتماعي والانساني، فيما يستمر الهروب إلى الأمام عبر السعي الى رمي كرة مسؤولية الإنقاذ على الفاتيكان، وليس على المدعوين وما يمثّلون.
تتخطى هذه الرؤية، بأشواط، القالب السياسي الذي يؤطر المسيحيون أنفسهم فيه، بين حلفاء إيران وحزب الله، وبين معارضي الحزب وسوريا ومؤيدي السعودية وواشنطن، وبين الداعين الى «رفع وصاية إيران عن لبنان»، والذين يلبسون لبوس التغييرين، والطبقة العسكرية والمالية التي تحكم قبضتها على اللبنانيين، أو تسعى الى ذلك من خلال الحلم الدائم برئاسة الجمهورية. فالتسليم بأن إيران مسؤولة عن الانهيار الحالي وأن السعودية لم تقدم الا ما هو جيد للبنان، في مقابل قراءة متناقضة عن فوائد الأدوار الإيرانية والروسية والصينية، لا يعفي مطلقاً مسؤولية المسيحيين بأحزابهم ومسؤوليهم وبطاركتهم وأساقفتهم ومصرفييهم وضباطهم، عن وصول الأزمة في كل وجوهها المحلية والإقليمية والدولية الى ما هي عليه، وعن التدهور في كل القطاعات المالية والاقتصادية والصحية والغذائية، وهم يسيطرون على جزء كبير منها، فضلاً عن قطاع المحروقات الذي يسيطر على قسم كبير منه مسيحيون أيضاً.
ما مثله لقاء قرنة شهوان قبل عشرين سنة تماماً، من خروج عن الاصطفاف الحزبي والعائلي في الحياة السياسية المسيحية، تجربة فريدة من نوعها. رغم عثرات وانكشاف حقائق ملتبسة عن شخصيات شاركت فيه، إلا أنه لا يمكن الا التوقف عنده، حين يصبح المشهد السياسي والديني المسيحي على هذا المستوى من التدهور الاخلاقي والسياسي. أخرج لقاء القرنة المسيحيين من القوقعة الحزبية ومن سيطرة العائلات التقليدية ومن سطوة الاحزاب على الناس، وفي الوقت نفسه قدم نموذجاً لكيفية قيادة مبادرات سياسية في لبنان وخارجه تجاه كل القوى السياسية، وأسهمت شخصياته بفاعلية في المجمع الماروني، وبعضها كان له مساهمات متفرقة في السينودس من أجل لبنان، وخصوصاً أن البطريرك مار نصر الله بطرس صفير وضع القضية اللبنانية في المحافل الدولية.
ما فعلته الأحزاب بعودتها الى الساحة المسيحية، هو أولاً أنها قزمت القضية بمعناها الجوهري، فلم تنفتح على الخارج إلا لمصالح رئاسية أو مالية. ثانياً، ألغت مفهوم الشخصيات ذات الوجه الفكري والسياسي والثقافي والاكاديمي الرفيع لصالح موظفين لدى رؤساء الاحزاب، فلم تستطع أن تنتج في السنوات الأخيرة شخصية لامعة.
وثالثاً، أحكمت القبضة على «المجتمع المسيحي» في خطة العودة الحزبية (بالمعنى الضيق وليس بالمعنى الحزبي المتقدم رؤية وفكراً) ولم تقدم سياسياً خطة شاملة وأبعد نظراً إلى المستقبل. رابعاً، لم تستطع بناء علاقة سوية مع الخارج، لا عربياً ولا غربياً. هناك شخصيات سياسية حزبية من الصف الأول، كانت تستخف في عز معركة استعادتها لحضورها الحزبي، باحتمال دخول إيران على الخط اللبناني، فيما رسمت قيادات أخرى مصالحها المالية والاقتصادية والسياسية على إيقاع خطوط ائتمان مفتوحة مع دول المنطقة تمويلاً «لمناطقها» الحزبية، بينما توزعت اهتمامات قوى سياسية مسيحية على تعزيز أرصدتها المالية والخدماتية والتنفيعات، على مثال ما فعله حلفاء سوريا المسيحيون في لبنان أيام الوجود السوري في لبنان.
تبعاً لذلك، بات إحكام القبضة على البلديات أهم لدى الاحزاب المسيحية من العمل على إقامة مستشفيات في المناطق الحدودية من الشمال الى الجنوب، وتقاسم المهرجانات أهم من إعمار مدارس ومستشفيات ذات مستوى يسمح بتثبيت العائدين الى قرى الجبل، وبناء مركز حزبي استفزازي أهم من إنماء مناطق الحرمان، وإعادة خلق ثنائيات حزبية وإشعال النعرات الحزبية ونبش القبور في الجامعات والمدارس أكثر فائدة من الإحاطة بالجامعات نفسها والمدارس التي ازدهرت حتى في عز الحرب. والعمل الحزبي في وجهه السيّئ، تعزز بانهيار في المؤسسات الكنسية والرهبانية التي غرقت في عالم البهرجة والقصور والابنية الفخمة والاموال المفقودة والأراضي المؤجرة لسياسيين، من دون مراعاة الوضع التعليمي برمته، وما يترافق معه من أعباء بدأت تظهر نتائجها اليوم.
لا يلغي الصراع السياسي بين قوى 8 و14 آذار سابقاً، جوهر الانحلال في المؤسسات المسيحية. فـ«سطوة إيران» و«سلاح حزب الله» لا يتدخلان في إدارة مستشفيات المؤسسات المسيحية ومدارسها وجامعاتها، وهي ممتدة من بيروت الى جبل لبنان وسائر المحافظات. والأزمة المالية والاقتصادية التي تترافق مع صراع سياسي مفتوح على عوالم مجهولة، لا يمكن التعامل معها بدفاع ممجوج من بكركي وجوقتها عن منظومة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ورئيس جمعية المصارف سليم صفير، في وقت تتحدث فيه إدارات المدارس والجامعات عن أسوأ السيناريوات للسنة المدرسية المقبلة، في وضع الطلاب والاساتذة على السواء، وترزح المستشفيات «المسيحية الهوية»، ومعها مؤسسات ضامنة، تحت وطأة العجز عن الطبابة لجمهور «المجتمع المسيحي». دلّت أزمة كورونا على أن مواجهة هذا المجتمع للأزمة مواجهة فاشلة، وأولى إشارت الكلام عن اللامركزية الإدارية والمالية أكدت الأمر نفسه، حتى إن أي مبادرة اجتماعية وإنمائية وتربوية واقتصادية بالمعنى الشامل لم تحصل، لولا انفجار المرفأ. واجتماع الفاتيكان لا يعني أن الكرسي الرسولي سيضخ أموالاً في مستشفياتهم ومدارسهم وينقذ العائلات من الفقر الذي يطال كل يوم شريحة أكبر منهم. المسيحيون مسؤولون، كغيرهم، عن الجحيم الحالي: هم موجودون ومسؤولون عن إذلال الناس في صورة مباشرة في بطريركياتهم ومطرانياتهم وأحزابهم المنغمسة في الإعداد للانتخابات النيابية والرئاسية، فيما جمهورهم يتلاشى بالمرض والفقر والهجرة... وهم مسؤولون في القصر الجمهوري وحاكمية مصرف لبنان وجمعية المصارف والمصارف الأساسية، وقيادة الجيش، وقطاع الاقتصاد والتجارة والصناعة، ووزارة الطاقة وشركات المحروقات ووزارات الخدمات المترهلة، كما قطاع المستشفيات والأدوية والمدارس والجامعات. ولا يفترض رمي هذه المسؤولية على السعودية أو إيران، ولا حكماً على الفاتيكان الذي لم يتبق لهم سواه، بعدما فقدوا إطلالتهم السياسية على العالم، إلا في حالات استعطاء الأموال.