قرار مصرف لبنان وقف «دعم» استيراد السلع الرئيسية، وفي مقدمتها المحروقات، سـ«يقطع» الدولارات من السوق. المستوردون سيحصلون على الدولارات من الصرافين، بعدما كان مصرف لبنان يؤمّن 85% أو 90% منها، ما سيؤدّي إلى المزيد من الطلب على العملة الصعبة. وبسبب عدم قدرة المستوردين على تأمين الدولارات، ربما ستنقطع سلع رئيسية من السوق، ويُحقّق رياض سلامة هدفه بخفض الاستيراد
اليوم الأول بعد رفع أسعار البنزين والمازوت، أظهر... عدم انفراج أزمة البنزين. المحطّات إما أنّها أقفلت أبوابها أو استمرت في تقنين المادّة للمستهلكين، بسبب اعتراض أصحاب الشركات على طريقة احتساب التسعيرة، مُطالبين باحتسابها على سعر صرف الدولار النقدي، في حين أنّ الجدول وُضع بالاعتماد على سعر صرف 3900 ليرة لكلّ دولار. ليس مستغرباً أن يستمر المُحتكرون في تأمين مصالحهم والسعي إلى زيادة أرباحهم في عزّ الأزمة، طالما أنّهم ينجحون في كلّ مرّة بانتزاع الشروط التي يُريدونها من «الدولة»، بعد أن يأخذوا السكّان رهينةً ويتحكموا بضخّ السلع بالسوق.
يحصل ذلك حتّى قبل انقضاء فترة الـ«سماح» التي أعطاها حاكم المصرف المركزي رياض سلامة لدعم المحروقات «100%» بحسب سعر صرف الـ 3900 ليرة للدولار، وهي الفترة التي تمتد إلى ثلاثة أشهر فقط. وهي ستكون «فاتحة» لنوعٍ آخر من الأزمات: المزيد من الطلب على الدولار من السوق، لكن ليس بما يؤدي إلى زيادة سعر العملة الصعبة وحسب، بل قد يؤدي إلى عجز المستوردين عن تأمين الدولارات اللازمة للاستيراد. مستوردو المواد الغذائية وقطع الغيار والدواليب والمواد الأولية الزراعية والصناعية وغيرهم يشترون الدولارات من عند الصرّافين حتّى يستوردوا بها مواد من الخارج. بعد ثلاثة أشهر، سيتوقف مصرف لبنان عن فتح الاعتمادات لاستيراد المشتقات النفطية، وسيكون لزاماً على الشركات اللجوء أيضاً إلى الصرّافين. المصير نفسه سيطال مستوردي حليب الأطفال وجزءاً من الأدوية. ترجمة هذا «النزوح» صوب السوق الحرّة يعني أنّ كمية الدولارات في التداول لن تكفي لسدّ حاجة لبنان من الاستيراد، وخاصة إن صحّت الأرقام الصادرة عن مجلس الوزراء ومصرف لبنان، بأنّ الأخير دفع خلال السنة الماضية 5 مليارات و40 مليون دولار لتمويل استيراد المحروقات والدواء والسلّة الغذائية والقمح. رفع الدعم نهائياً، سيؤدّي إلى محاولة المُستوردين تأمين قرابة الـ 3 مليارات دولار من السوق الحرّة، من دون أن ينجحوا في ذلك. فلو كان هذا المبلغ متوافراً فعلاً حالياً، لما كان الضغط على سعر العملة بهذه الحدّة.
انقطاع العملة الصعبة في بلد مثل لبنان، يتّكل على الاستيراد لتأمين ــــ تقريباً ــــ كلّ حاجات سكّانه والمواد الأولية اللازمة للصناعات والزراعة، سيخلق كارثة... تُفيد رياض سلامة. الحاكم يُريد تخفيض الاستهلاك عبر زيادة الأسعار، ويُريد إعادة لمّ الكتلة النقدية بالليرة من السوق، لذلك قرّر التوقّف عن دعم الاستيراد. رضخت له السلطة لأنّها لا تُريد أن تتحمّل مسؤوليتها وتُمارس دورها، بل تستمر في تفويض مهامها لحاكم البنك المركزي. علماً بأنّه في مثل هذه الأزمات، وخاصة إذا كانت مُصنفة من قبل البنك الدولي بأنّها واحدة من أسوأ ثلاث أزمات في العالم على مدى أكثر من 150 سنة، يجب أن تُعزّز الدولة من حضورها، وتتّخذ إجراءات تحمي من خلالها القدرات المعيشية للسكّان والاقتصاد المحلي. لا إمكانية إلا باعتماد حلول جذرية، بحسب خبراء اقتصاديين، كأن تتولّى بنفسها استيراد المحروقات للتنقل وتشغيل الكهرباء، والأدوية، والمواد الغذائية... وتطبيق إجراءات فورية، كإصدار بطاقة لكل سيارة دفعت الميكانيك فتُصبح قادرة على شراء بنزين مدعوم بكميات محددة، وأي استهلاك يفوق الكمية المدعومة، يُدفع ثمنه كما هو في السوق. ولا شيء يمنع عقد اتفاقات من دولة إلى دولة، إلا العقلية السائدة بأنّ السيطرة هي للمحتكرين والتجّار والمصرفيين، والخضوع أمام إملاءات الغرب بأنّ التعاون التجاري والاقتصادي ممنوع مع دول غير مرضى عنها أميركياً.
أزمة إيجاد الدولار ستبدأ قريباً، ولكنّ أزمة الليرة بدأت فعلاً مع إبلاغ عدد من المصارف الشركات التي تُوطّن رواتب موظفيها لديها أنّها بحاجة إلى الإتيان بليرات نقدية حتى يتم تحويل رواتب الموظفين، وممنوع على الشركات أن تستخدم الأموال في حساباتها لدى المصارف، إلا إذا ارتضت سحبها كشيك مصرفي. هذا الأمر أدّى إلى أن تصل العمولة على النقد اللبناني أمس إلى 10% (كل شيك بقيمة 100 مليون ليرة، يُصرف في السوق بـ 90 مليون ليرة) بعدما كانت 7%، وهي مرشحة إلى الارتفاع.