منصة المصرف المركزي: الانتقال من تثبيت سعر الصرف الى تحريره؟
منصة المصرف المركزي: الانتقال من تثبيت سعر الصرف الى تحريره؟

اقتصاد - Monday, March 22, 2021 7:53:00 AM

الجمهورية

د. سهام رزق الله

قبل الحرب اللبنانية وحتى العام 1990 كان لبنان يعتمد نظام القطع المَرن، أي أنّ السوق كان يحدد سعر الصرف وفق العرض والطلب للعملة الوطنية إزاء العملات الأجنبية. ومع مطلع التسعينات عمل المصرف المركزي على الضبط التدريجي «الزاحف» لسعر الصرف حتى اعتماد الربط الثابت لليرة تجاه الدولار منذ عام 1997 على أساس سعر وسطي 1507.5 ليرات للدولار الواحد مع هامش 1501-1514، قبل أن تنفجر الأزمة الاقتصادية عام 2019 وتترجم بظهور فوضى سوق القطع الموازي. اليوم، يحاول الجهاز المصرفي إعادة ضبط الأوضاع من خلال منصة سعر الصرف تعتمد السعر الأقرب للسوق والمتحرّك وفق حاجاته بما يعكس تمهيداً للعودة الى النظام المَرن، ما يحمل على طرح عدة أسئلة: ما هي الشروط الضرورية - من وجهة النظر التشغيلية - من أجل تحول ناجح من سعر الصرف الثابت إلى سعر مرن وفق السوق؟ ما هي السرعة التي يجب أن تكون عليها عملية الانتقال؟ وبأي ترتيب يتم وضع السياسات اللازمة لتحقيق المرونة؟
إلا أن الربط الثابت لليرة بالدولار وعلى أساس سعر صرف يرتكز بشكل أساسي على التدخّل المستمر للمصرف المركزي في السوق لضبط التوازن بين العرض والطلب من خلال استخدام إحتياطاته بالعملات الأجنبية، ما يتطلّب الحرص الدائم على تدفّق العملات الأجنبية والمحافظة على فائض في ميزان المدفوعات. من هنا لطالما اعتبر البعض أنّ سعر الصرف 1507.5 كان مرهقاً للمصرف المركزي وللاقتصاد الوطني، ويحتاج مؤشرات إيجابية على مستوى مختلف المؤشرات الماكرو-إقتصادية التي بقيت مقبولة عملياً حتى العام 2011 حين تبدّلت الأوضاع كلياً مع تدهور الناتج المحلي وحركة الاستثمار والرساميل والسياحة والمداخيل وبدأ سيناريو تراكم عجز ميزان المدفوعات، ما يعني خروج عملات أجنبية أكثر من دخولها سنويا. وبذلك اعتبر كثيرون أن التمسّك بالمحافظة على استقرار سعر الصرف نفسه، لا سيما منذ هذه المتغيّرات، بات «غير واقعي» ومكلف للمصرف المركزي ولمجمل الإقتصاد الوطني كونه لا يراعي فرق عوامل المخاطرة ومعدّلات الفوائد بين العملتين، كما أنه يتطلّب تحصينه بزيادة متواصلة بالاحتياطي بالعملات الأجنبية، وقد تبيّن الضغط على الموجودات الخارجية للمصرف المركزي ومجمل الجهاز المصرفي تحديداً مع تراجع هذه الموجودات بالمقارنة مع زيادة دولرة الودائع المصرفية، وما كانت «الهندسات المالية» التي تمكّنت من استقطاب دولارات من الخارج للمشاركة بها إلّا لتؤمّن شراء الوقت بانتظار إصلاحات لم تحصل، إن لجهة تخفيض خدمة الدين التي تكون على الأوروبوند أقل فوائد مما هي على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية أو لجهة إعادة انتظام الدورة الإقتصادية وتصحيح الخلل في الميزان الخارجي باتجاه إعادة اجتذاب مصادر العملات الأجنبية (السياحة، الإستثمار، التوظيف المالي...).

 

أما وقد استنزفت على حدّ سواء مهل الإصلاح واحتياطات المصرف المركزي بالعملات الأجنبية وإمكانية الاستمرار بنظام ربط الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي، والذي لم يحقّق أساساً أي تراجع كبير بمعدّل الدولرة التي لم تنخفض عن حدود الـ70 % من الودائع على الرغم من تثبيت سعر الصرف طيلة 22 عاماً ليعاود حالياً التحليق لأكثر من 80 % من الودائع مستعيداً معدّله إبّان أزمة الثمانينات، ولكن هذه المرة مع إضافة دولرة ثلث الدين العام. ومع فقدان القدرة على استخدام ودائع الناس بالعملات الأجنبية في المصارف، ومع تنامي سوق قطاع مواز يأمل المصرف المركزي ضبطه بإعادة دور التداول بالعملات الأجنبية الى منصة المصارف...


 

إلّا أن نجاح العودة عن ربط عملة وطنية بعملة أجنبية وإعادة تحرير تسعيرها في السوق بعد فترة تثبيت وتدخّل مركزي في سوق القطع له شروط بارزة، تبدأ بتأمين التوقيت المناسب المتزامن مع صدمة إيجابية تجعل من هذا الخيار نتيجة تلقائية مطمئنة الى ثبات سعر الصرف من دون الحاجة لتثبيته بتدخلات منتظمة في سوق القطع. ولا تنتهي بتوفّر عوامل مساعدة من مؤشرات اقتصادية مستقرّة تسمح بإعادة التعويم السلس من دون إثارة أي قلق أو بلبلة في الأسواق ومن دون إفساح مجال للمضاربة أو التلاعب بالأسعار لتسجيل الأرباح من فروقات العملة والتأثير الإقتصادي والنفسي من تقلّب التوقّعات. وأساس النجاح دائماً مرتبط بحرية الاختيار والتوقيت للانتقال نحو تعويم العملة، وليس الاضطرار على التعويم نظراً لفقدان إمكانية المحافظة على التثبيت لأن الثبات يحتاج أولاً الى الثقة والطمأنينة لقدرة السلطة النقدية على الحفاظ على الاستقرار النقدي ودور العملة الوطنية في تحديد الأسعار وتأمين التبادل التجاري والمحافظة على قدرتها الشرائية.

 

وقد قامت بعض البلدان بالانتقال من نظام سعر الصرف الثابت إلى نظام سعر الصرف المرن بشكل تدريجي وسلس، حيث تبنّت أنواعاً من أنظمة أسعار الصرف المتحرّك بهوامش معتدلة، والأنظمة الأفقية والزاحفة، والأنظمة العائمة والمُدارة بانتظام - قبل السماح للعملة بالتعويم بحرية. فيما كانت التحولات الأخرى فوضوية، أي أنها تتميز بانخفاض حاد في قيمة العملة.

 

تشير تجارب البلدان إلى أنّ هناك حاجة إلى 4 مكونات بشكل عام من أجل الانتقال الناجح إلى مرونة سعر الصرف:

• سوق عملات أجنبية يتمتّع بالعمق والسيولة.

 

• سياسة متماسكة تحكم تدخل البنك المركزي في سوق الصرف الأجنبي (ممارسة شراء أو بيع العملة المحلية للتأثير على سعرها أو سعر صرفها).

 

• أنظمة هوامش سعرية اسمية معتدلة بديلة مناسبة لتحل مكان سعر الصرف الثابت.

 

• أنظمة فعالة لمراجعة وإدارة تعرض القطاعين العام والخاص لمخاطر العملة.

 

يختلف التوقيت والأولوية الممنوحة لكل مجال من هذه المناطق بشكل طبيعي من بلد إلى آخر حسب الظروف الأولية وهيكلية الاقتصاد وتطوير سوق الصرف الأجنبي.


 

 

ويتطلب تطبيق نظام سعر الصرف المرن وجود سوق صرف أجنبي يتسم بالسيولة الكافية والفعالية للسماح لسعر الصرف بالاستجابة لقوى السوق، ويحد من عدد ومدة فترات التقلب المفرط والانحرافات عن سعر الصرف المتوازن (المعدل الذي يتماشى مع الأساسيات الاقتصادية للبلد).

 

بشكل عام، يتألف سوق القطع من سوق المصارف حيث تتم عمليات التداول الأساسية بين ممثلي الوسطاء المعتمدين (عادة المصارف والمؤسسات المالية الأخرى) مع بعضهم البعض ومع سوق التجزئة حيث يجري المكلّفون المعتمدون المعاملات مع العملاء النهائيين، مثل الأسَر والشركات.

 

وتُعرف سيولة السوق بهوامش عرض ضيقة نسبيا؛ انخفاض تكاليف المعاملات معدل دوران كافٍ للحد من تأثير التبادلات الفردية على الأسعار؛ أنظمة التداول والمقاصة والتسوية التي تسهل التنفيذ السريع للأوامر؛ ومجموعة واسعة من المشاركين الناشطين في السوق.

 

وثمة خطوات من شأنها أن تساعد أي دولة على تحسين عمق وسيولة سوق الصرف الأجنبي لديها:

 

• السماح ببعض المرونة في سعر الصرف (على سبيل المثال، ضمن نطاق تقلبات) لتحفيز نشاط الصرف الأجنبي. والعمل على تعزيز الإحساس بمخاطر سعر الصرف في اتجاهين - مخاطر ارتفاع قيمة العملة أو انخفاضها

 

• تقليص دور صانع القرار للبنك المركزي من خلال تقليص تبادلاته مع المصارف وتدخلاته لترك السوق للاعبين الآخرين في السوق. يجب ألا يتفاوض البنك المركزي مع العملاء غير الماليين.

 

• زيادة معلومات السوق عن مصادر واستخدامات العملات وعن اتجاهات ميزان المدفوعات لتمكين المشاركين في السوق من تطوير وجهات نظر موثوقة حول سعر الصرف والسياسة النقدية وأسعار صرف العملات بشكل فعّال.

ومن الضروري أن تكون للسلطات أيضا أنظمة معلومات ومنصات التداول التي توفر عروضا وعروضا مقابلة في الوقت الفعلي في سوق ما بين البنوك.


 

• إلغاء اللوائح التي تعيق نشاط السوق. قد تشمل الخطوات المهمة إلغاء متطلبات تحويل إيصالات النقد الأجنبي إلى البنك المركزي، والضرائب والرسوم الإضافية على معاملات الصرف الأجنبي، والقيود المفروضة على التجارة بين المصارف؛ توحيد سوق الصرف الأجنبي المقسم؛ وتخفيف القيود المفروضة على ضوابط رأس المال لإنعاش النشاط في سوق القطع. ومع ذلك، يجب تخفيف ضوابط رأس المال تدريجاً، توحيد وتبسيط تشريعات الصرف الأجنبي وتجنب التغييرات المتكررة في القوانين، وذلك لتحسين شفافية السوق وتقليل تكاليف المعاملات.

 

• تحسين البنية المجهرية للسوق من خلال تقليل تجزئة السوق، وزيادة كفاءة وسطاء السوق وضمان تسوية موثوقة وفعالة للأنظمة، علماً أن تطوير وتعميق سوق القطع يكون أكثر تعقيدا عندما يضطر بلد ما إلى التخلي عن سياسة التثبيت وربط سعر الصرف تحت الضغط بحيث لا يكون لديه الوقت للاستعداد المنظم لتعويم العملة.

 

وبالتالي، فإنّ السلطة التي تنتقل إلى نظام مرن يجب أن تصوغ سياسات بشأن أهداف وتوقيت ومقدار التدخلات، علماً أنه قد يصعب اكتشاف الاختلالات ولا يوجد إجماع على منهجية لتقدير توازن سعر الصرف. المؤشرات الأكثر استخداما - القيمة الاسمية وأسعار الصرف الفعلية الحقيقية والإنتاجية ومقاييس أخرى للقدرة التنافسية وشروط التبادل التجاري وميزان المدفوعات وفروق أسعار الفائدة وأسعار الصرف في السوق الموازية - وعادة، لا يسمح ذلك لصانعي القرار بتقييم درجة الاختلال بدقة لمساعدتهم على تحديد توقيت وكمية التدخل.

 وحتى عندما يكتشف صانعو السياسة اختلالاً في سعر الصرف أو تقلباً مزعزعاً للاستقرار، فقد لا يصحح تدخل البنك المركزي المشكلة دائماً. إن الأدلة التجريبية على فعالية التدخل في التأثير على سعر الصرف مختلطة، ويبدو تأثير التدخل على مستوى سعر الصرف قصير الأمد. أظهرت الدراسات التجريبية أيضاً أن التدخّل يميل إلى زيادة تقلب سعر الصرف بدلاً من تقليله. وبالتالي، فإنّ تقلبات أسعار الصرف قصيرة الأجل قد لا تبرر التدخل.

 يبقى القول انّ الهدف الرئيسي للسياسة النقدية لأي بلد يكمن في التحكم في السيولة النقدية للمحتفظة على قيمة العملة الوطنية وقدرتها الشرائية، إن لجهة ضبط التضخّم أو لجهة استقرار سعر الصرف بما ينسجم مع مستوى مختلف المؤشرات الماكرو-إقتصادية في البلد. وقد أدت صعوبة تطوير ربط اسمي بديل موثوق به للعديد من البلدان إلى الابتعاد ببطء عن ربط سعر الصرف من خلال اعتماد نظام زاحف كنظام وسيط أثناء انتقالها إلى ربط اسمي آخر، أو التعويم التدريجي... فهل يكون لبنان على خطى العودة الآمنة نحو سعر الصرف المَرن بأقل بلبلة في الأسواق في ظل أشد الأزمات الاقتصادية التي يشهدها لبنان؟ وأي مدى زمني مرتقب لبدء تلمّس النتائج؟

| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) اضغط هنا

 

تسجل في النشرة اليومية عبر البريد الالكتروني