النقيب السابق لمحامي الشمال، الوزير السابق رشيد درباس
كم استبشرتُ عندما تدفّقت الينابيع البشرية وزحمت الخريطة من ثلجها إلى بحرها، وأينع التفاح والليمون على امتداد البستان الواحد، ولكن الأيام أثبتت أن اندفاعة الناس تُبلى بالاندساس، وقويم المسار يكمن له العِوَج، وبراءة النفوس لا تتمتع بمناعة الخبرة لصد الرعونة والعشوائية والأحلام المريضة والزعاق المؤذي للأسماع؛ مارس الحكام علينا استبدادً مديداً، بأداء متقهقر، وجشع متفاقم، وحموا أنفسهم برايات طوائفهم، حتى إذا اندفع السيل العرم مجتازاً حدود دوقياتهم وإماراتهم، رموه بالفوضى من خلال اتباع يحضون على التخريب بقصد إرجاع السيل إلى أغواره، وإبقاء الشوارع نهباً للحرائق والمولوتوف والحجارة ومحاولة تهديم معالم الدولة.
إنفجار مرفأ بيروت ليس فعلاً جنائياً ارتكبه أفراد، بل هو خيانة وطنية كبرى ارتكبتها دولة تحيا على الفراغ، وتقتات من الإهمال والتسيب، وتبث الهواء المشبع بالسموم، وتسلس قيادها لمن ينهشون لقمة المواطن، ليأكلوها في بطونهم سعيراً، ويغذوا من فتاتها كلابهم وهررتهم لِيحْسنَ منظرها أثناء أخذ الصور التذكار ية معها.
ليس تفصيلاً في التاريخ، أن تحترق أم الشرائع، فيجري الترويج للبحث عن الجناة من خارج الشريعة والقانون. إن بكاء الثكالى والأيتام والأرامل أمام الشاشات، هو جزء من بكاء الوطن المكلوم الذي لن "يفش خلقه" بالغضب العشوائي، لأن تحديد المسؤوليات لا يتم إلا من خلال القنوات القانونية ومن خلال أهل العلم والخبرة والشجاعة ورباطة الجأش، والرصانة والهدوء المفضي إلى كشف الحقائق.
أكثر ما يخيفني أن يلجأ المظلومون إلى ممارسة الظلم، وأن تُغشي دموع الأحزان البصيرة، وأن ينفر الجمهور من الكلمة الحق، فيحرق قائلها، ثم تحترق قضيته بعد ذلك بعقبى الجهالة.
ليست هذه مقدمة لما سأقول، بل إن ما سأقوله هو تطبيق أو مثل شخصي ودليل على صحة هذا الرأي، ولكنني استدرك وأؤكد أن ما تعرضت له أنا من افتراء، توقف عند سبعة أشخاص فرحين بحزبهم، فشلوا في أن يؤلفوا لهم جمهرة تصفق لهم، بل حفزوا الجمهرة على انصافي. ففي مقابلة في برنامج "صار الوقت" مع سعادة النقيب ملحم خلف، حاولت أن أشرح بصورة مبسّطة مسألة قانونية دقيقة، بطريقة هادئة، فأذ بكاتب فاضل، بل أبي فاضل يعيب علي من غير مقدمات هدوئي، وينعتني بأنني جزء من النظام، وذلك من خارج أي سياق إلى أن داخلتني ريبة إذ ما كادت تنتهي الحلقة حتى قرر أحدهم أن يحيي مولداً سياسياً ليتهمني بأنني نقيب سفيه، رغم عفة لساني، ولم أدرِ لذلك سببا لأنني لم أتشرف بمعرفته ولا توجد أية ذريعة تبرّر له ذلك الغل وتلك العجرفة، فآسيت نفسي ببيتٍ للشيخ ناصيف اليازجي إذ يقول:
لا تبكِ ميتاً، ولا تفرح لمولود
فالميت للدودِ والمولود للدودِ
فانبرى ثالث أجهل من هو أيضاً وجشم نفسه عناء التفتيش في تاريخي المهني فلم يجد لي إلا قصة ملفقة عن توكلي لجاسوس اسرائيلي مزعوم منذ خمسين سنة. ذلك أن أحداً لن يجد ما يَشينني إلا إذا اختلق او لفّق أو شوّه أو استثمر في أمر تعمد أن يلصقه بي، فأنا لم أكن وكيلاً لذلك المزعوم قط، ويعزيني أن الأحقاد التي راحت تنبش في تاريخي لم يسعفها سوى هذه القصة السمجة.
أما السيدة، أو الفتاة التي أساءت إلى جمال شكلها وصداقتي مع أهلها، فقد تعسفت واتّهمتني أنني سببت لها الغثيان، علمًا أن أسباب الغثيان عديدة ليس منها الكلام العلمي، ولكن عسر الهضم المعرفي قد يصيب بالغثيان والهذيان معاً؛ رابعهم أو سابعهم لست أدري، هجر الصحافة إلى الزراعة وراح يبذر السباب والاتهامات بحقي كأنه رقّاص الساعة، فكم مدحني قبل ذلك فما ازدهيت، وكم شتمني فما غضبت.
أما بعد، فإن العرفان يدفعني إلى شكر سعادة نقيب المحامين محمد المراد، الذي نعتزّ بقيادته الحصيفة، وكذلك الزملاء النقباء والمحامين وأنوه بالنقيب فهد المقدّم والاستاذ طارق خبازة اللذين كانا أول من تصدى لتلك الحملة، وأخص الصديق إميل رحمة الذي بادر بكل شهامة إلى انتقاد قناة الـO.T.V من شاشتها لما تعرّضتُ له في أحد برامجها، وأشكر المحطة ذاتها لأنها أبدت أسفها لما حدث.
اللافت أن السبعة العظماء The magnificents seven ليسوا من أهل القانون ، ولا من جيرانه، ولم يطلّوا يوماً من شبابيكه، ولا يعرفون الفرق بين نص القانون أو وتره ومع هذا فقد استمتعوا بجلدي على مدى أسبوع، لأنني تجرأت وتحدثت بما هو من اختصاصي، فأصبحت في نظرهم سفيهًا، علماً ان السفه في الشريعة ينصرف إلى معنى آخر، وما أو يتم من العلم إلا قليلاً، ولقد تجاهلتهم حتى قيل أني جاهل على ما يقول أبو العلاء، أما الآن، فأنني أسامحهم، ولا أحمل في نفسي غِّلاً، بل أرجو لهم رشاداً، إذ ربما في بعض مراحل حياتي، كنت من هذا النزق، ولهذا فأنني لا أستشهد بالإمام الشافعي:
أعرِضُ عن الجاهل السفيهِ
فكل ما قاله.. فهو فيهِ
بل ألجا إلى المقنع الكندي:
وَإِن الَّذي بَيني وَبَين بَني أَبي وَبَينَ بَني عَمّي لَمُختَلِفُ جِدّا
فإن يأكلوا لحمي.. وفرتُ لحومهم
وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
وإن ﻀﻴﻌﻭﺍ ﻏﻴﺒﻲ حفظن ﻏﻴﻭبهم
ﻭﺇﻥ ﻫﻡ ﻫﻭﻭﺍ ﻏﻴﻲ ﻫﻭﻴﺕ ﻟﻬﻡ ﺭﺸﺩﺍ
وإن قطَّعوا مني الأوصرار ضَلّة
وصلت لهم مني المحبة والودّا
ولا أحمل الحقد القديم عليهمِ
فإن نقيَّ النفس لا يعرف الحقدا
|
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp)
اضغط هنا