رضا صوايا
اختيار من يستفيد من اللقاحات أولاً مسألة شائكة تخضع لمعايير صحيّة واقتصاديّة وأخلاقية. من يحدد من يستحق الحياة؟ ووفق أي اعتبارات؟ هل العمر وحده معيار كافٍ؟ هل ننقذ من هم أكثر عرضة للوفاة، أم من هم أكثر نقلاً للمرض للحد من أعداد الوفيات؟ أسئلة يصعب إيجاد توافق حولها ولو في معرض البحث النظري، فكيف الحال والجائحة تطرق كل باب وتحصد الأرواح بالعشرات والمئات. بعض الدول، خصوصاً الغنية منها، قد تملك ترف تأجيل البحث عن الأجوبة، فيما دول أخرى كلبنان قد تجد نفسها بين خيارين أحلاهما مر.
قررت غالبية دول العالم، تحديداً تلك التي بدأت تلقيح رعاياها ضد فيروس كورونا، أن الأولوية يجب أن تعطى لمقدمي الرعاية الصحية وكبار السن ومن يعانون من أمراض مزمنة، انطلاقاً من الحاجة الماسّة إلى تحصين القطاع الطبي للتصدي للجائحة، وللحفاظ على حياة المسنين الأكثر هشاشة في وجه الفيروس. إلا أن هذا الخيار السائد ليس «قاعدة منزّلة» لا تحتمل النقاش، خصوصاً أن دراسات كثيرة حول العالم تشكك في جدواه، أو تدعو الى اعتماد وسائل أخرى أكثر فاعلية لمواجهة كورونا، وقادرة في الوقت عينه على الحفاظ على الاقتصاد ودورة الحياة.
إندونيسيا من الدول التي خالفت التيار السائد في بقية دول العالم، معتمدةً خطة مغايرة لتوزيع اللقاحات، تمنح الأولوية للفئات العمريّة بين 18 و 59 عاماً، باعتبار أن «هذه الفئة العمريّة هي الأكثر إصابة بالفيروس ومعظمها من دون أعراض»، بحسب وزارة الصحة الإندونيسية. العدد المحدود للقاحات كان أحد الدوافع الأساسية التي أملت على هذا البلد اعتماد هذه الخطة، إذ إن «هذه الفئة الأكثر عرضة للإصابة ونقل العدوى ستشكل بعد تلقّي اللقاح حصناً لحماية بقية الفئات»، وفقاً لمدير معهد إيجكمان للبيولوجيا الجزيئية أمين سوباندريو؛ إذ يعتبر الإندونيسيون أن دول العالم الغنية تملك ما يكفي من اللقاحات لتلقيح كامل سكانها، إضافة إلى المقومات الاقتصاديّة للصمود، وهو ما تفتقر إليه الدولة الآسيوية، وما أملى عليها هذا الخيار الذي سيتيح لها فتح الاقتصاد ومعاودة العمل بأقل خسائر ممكنة.
دراسة حديثة صادرة عن «جامعة خليفة» في أبو ظبي، أعدّها الباحثون خورخي رودريغز وموريسيو باتون وخوان أكونا، اعتبرت أن اللقاح يجب أن يمنح في المرحلة الأولى للفئات الأكثر اختلاطاً يومياً، وهو ما قد يؤدي إلى خفض عدد الإصابات، وتلقائياً الوفيات، شرط أن يمنع اللقاح نقل العدوى. في السياق عينه، ربط بعض الباحثين بين لقاح كورونا ولقاح الإنفلونزا وأعادوا التذكير بدراسة صادرة عام 2009 للباحثين جان ميدلوك وأليسون غالفاني اعتبرت أن الفئات الشابة هي الأكثر نقلاً للإنفلونزا، فيما لم يسهم اللقاح في خفض أعداد الوفيات بشكل لافت، وبالتالي فإن الحل الأمثل يكون بتلقيح تلاميذ المدارس والبالغين الذين تراوح أعمارهم بين 30 و 39 عاماً.
فهل كان يفترض بلبنان اعتماد التجربة الإندونيسية، خصوصاً أن الظروف الاقتصاديّة التي يرزح تحتها لا تسمح بشلّ البلد بشكل كامل لمدة طويلة، في ظل الدعوات المتزايدة إلى تمديد حالة الإغلاق الشامل أسابيع إضافية؟
يشدّد رئيس لجنة الصحة النيابية النائب عاصم عراجي على أنه «في حالات كهذه يجب أن نأخذ في الاعتبار الأخلاقيات الطبية والقيم الإنسانية. البروتوكول الذي وضعناه يتماشى مع المعايير التي اعتمدتها غالبية دول العالم». يحدّد عراجي من سيستفيد من اللقاح أولاً، وفقاً للبروتوكول، وهم «مقدّمو الرعاية الصحية، ومن ثم كبار السن الذين تتخطّى أعمارهم 75 عاماً وما فوق، بغض النظر عمّا إذا كانوا يعانون من أمراض أو لا. لاحقاً، هنالك المرحلة "ب" التي تتضمن المواطنين الذين ينتمون إلى الفئة العمرية ما بين 65 و 74 عاماً، يليهم المواطنون الذين ينتمون إلى الفئة العمريّة بين 55 و64 عاماً ممن يعانون من أمراض مزمنة».
الوصول إلى برّ الأمان، بحسب عراجي، يتطلب تلقيح «70% من المواطنين على الأقل، أو 55% منهم في حال افترضنا أن 15% أصيبوا وأصبحوا يتمتعون بالمناعة، وهي نسب أرجّح أننا لن نصل إليها قبل نهاية العام. أما اللاجئون الفلسطينيون والنازحون السوريون، فتوفير اللقاح لهم يقع على عاتق المنظمات الدولية، على أن يجري التلقيح بإشراف الدولة اللبنانية ووزارة الصحة».
وزير الصحة السابق محمد جواد خليفة يتساءل إن كانت الفئات التي سيشملها التلقيح بدايةً كافية للحفاظ على الحد الأدنى من الحياة، إذ «يجب أن يشمل التلقيح أيضاً عمال الأفران، وموظفي التعاونيات الاستهلاكية، والقوى العسكرية والأمنية والمزارعين والعاملين في القطاعات الاقتصادية الأساسية والحيوية كافة»، لافتاً الى أن «هناك من يعتبر أن من الأجدى أن نخلق مناعة قطيع لدى الشباب، ولا سيما أن أعداد من يحتاجون إلى عناية فائقة منهم بدأت ترتفع، إضافة إلى دورهم الحيوي في الإنتاج وإنعاش الدورة الاقتصاديّة». ولأنه، من الناحية الاقتصاديّة، «يستحيل إغلاق البلد بشكل كامل لمدة طويلة، خصوصاً بالنسبة إلى الفئات الفقيرة التي لا قدرة لها على الصمود. لذلك، يجب الموازنة بين الواقع الاقتصادي والواقع الصحي.
فما نفع أن نغلق البلد لأشهر ونحجز الجميع في المنازل ونقضي على كورونا، وفي النهاية يموت الناس جوعاً؟»، يسأل الخبير الاقتصادي دان قزي. لذلك، يجب أن تعطى الأولوية في التلقيح أيضاً للمياومين وأبناء الطبقات الفقيرة ممن هم غير قادرين على البقاء في منازلهم فترات طويلة من دون عمل.
لكن المشكلة في الخطة الإندونيسية، بحسب وزير الصحة السابق كرم كرم، تكمن في أن «أخذ اللقاح لا يعني أن الشخص لم يعد معدياً. جلّ ما في الأمر أن اللقاح يقوّي جهاز مناعة الفرد ويحصّنه ضد الفيروس، لكنه يبقى قادراً على نقل الفيروس. وبالتالي، فإن الخطر سيبقى محدقاً بكبار السن الذين لم يخضعوا للقاح وقد يختلطون بصغار السن الذين أخذوا اللقاح». وهو واقع يعني أن الكمامة ستبقى «رفيقة الدرب» لمدة طويلة «وربما لأعوام»، بحسب خليفة، إذ إن «من يأخذون اللقاح عليهم أن يبقوا على الكمامة وعلى التقيّد بالتباعد الاجتماعي. وهذه قد تلازمنا لعام 2022 وحتى 2023».