طارق زيادة .. صفحةٌ من حِقْبَة
طارق زيادة .. صفحةٌ من حِقْبَة

خاص - Sunday, November 8, 2020 8:26:00 AM

النقيب السابق لمحامي الشمال، الوزير السابق رشيد درباس

كان ينتظر فقرة "ناقوس في أحد" من إذاعة "صوت كل لبنان" صباح كل أحد، ولم يمنعه مرضه، من إجراء اتصاله الأخير مؤكداً عاطفته المتواصلة على مدار ستين سنة، رغم صعوبة النطق ووطأة الحال.
يمضّني هذا الصباح أن أتحدث عنه بعد أن أغلق أذنيه عن فحيح السياسة ولغو البلاهة، وقعقعة الصَّلف والخُطب الاستفزازية، فبتُّ استجدي موجات الأثير أن تخترق الغلاف الجوي، علّ كلماتي تصل إليه في مكان إقامته الجديد.
كتبت عنه في جريدة النهار تحت عنوان " طارق زيادة الـمـُتَحفِّظُ، المتَحَفِّز" فهتف لي صديقه الحميم وأستاذي عمر مسقاوي، قائلاً:" لقد تحدثتَ عن طارق زيادة ابن الناس، بل ابن الجيل، الذي أحدث قفزة نوعية من خلال الوسائل القليلة المتاحة، فملأ المستقبل بالبشائر والآمال".
وبالفعل لم يكن طارق زيادة ليختصر بحكاية شاب دأب على التعلم، ومارس المحاماة، ثم أصبح قاضياً، فرئيساً لمحكمة التمييز المدنية، فرئيساً للتفتيش القضائي، فنائباً لرئيس المجلس الدستوري، فهذه أمور تحدث مع المجتهدين المثابرين النزهاء الرصينين، ولكنه في الحقيقة كان صفحة من حقبة كانت حبلى بالتطورات الوطنية، ولقد كان في أول الشباب جزءاً لا يتجزأ منها، وكانت طرابلس تفخر بأترابه من الذين يملأون المشهد السياسي حيوية وطموحاً.
لا أستطيع أن أغفل حين أذكره منظر الرواقيين من أصدقائه، سعيد عدره وعبد الرزاق الحجة ومحمد عويضة ومحمد ولي الدين وعبد المجيد النعنعي وغيرهم، الذي كانوا يذرعون الشوراع وقد علت أصوات نقاشهم على وقع أقدامهم، وكل واحد منهم مسكون بهاجس أصلي هو الهاجس العام ولزوم التطور وكسر قشرة الجمود والتقليد، ولا أنسى زملاء له رحلوا ولم يخفت لهم نور كرئيس أمين الرافعي وعبد الرزاق أديب وميشال تركية ونديم عبود.
ولن يستطيع لقاء السبت في مكتب الحاج عبد الرزاق، أن يسدّ فجوة غيابه، ولن يخفف استذكار مآثره مرارة أو ألماً.
لم أكتب مرة عنه أو عن أخويه المرحوم الدكتور معن والسفير الدكتور خالد، إلا ورأيت نفسي منجذباً للحديث عن العائلة وعن أبيه الذي ورَّث الأبناء الانضباط والنظام والجدية وهذه صفات اكتسبها الموظف في مصلحة سكة الحديد ذات العيون الساهرة على انسياب القطارات في مواعيد لا تحتمل التهاون أو التغافل... وأنا الآن استذكر كلمتي في السفير خالد زيادة حيث كنت منبهراً بكتابه عن مدينة طرابلس، وقد أفسح في مقدمة الكتاب مساحة للحديث عن استبدال السرير المعدني في بيتهم، واستعمال أسرة من الفورمايكا، فقلت على ما أذكر، لقد بدأت مسيرة السفير خالد زيادة منذ انتقال عائلته من العصر البرونزي إلى العصر الخشبي، وكذلك مسيرة الأخ الأكبر وصديق العمر الدكتور معن زيادة الذي استدرجني وأغراني بالدراسة في القاهرة، واصطحبني إلى صالون نجيب محفوظ، وعرّفني على صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي ورجاء النقاش وسواهم، وترك في نفسي ذكريات وآثاراً أعود إليها، واحة في هجير هذه الصحراء.
بُعيد خروج طارق زيادة على التقاعد، استعانت دولة الإمارات العربية المتحدة بخبرة بعض رعيله كالرؤساء أحمد المعلم ووليد غمرة ومحمد عويضة، لكي يطعّموا القضاء الحديث العهد، بخبرة الأحبار الاخيار، وكم حدّثنا عن تجربته تلك، وعن الاحترام الذي أحيطوا به، وعن الحداثة التي أصبحت سمة المحاكم بعكس ما نحن عليه، وعن خلو المحاكمات من لوثةِ الوساطات، كما روى لي منذ مدة قريبة أنّ ابن رئيس دولة الإمارات كان طرفاً في قضية منظورة أمام محكمته فأصدرت حكمها لغير مصلحة ابن الرئيس، من غير يراجعهم أحد أو يعتب عليهم أحد أو تهتز مكانة تلك الغرفة لدى وزارة العدل.
لست أرثيه، بل أرثي حالنا، ومن يدري.. فلعله غادر في الوقت المناسب.
طارق زيادة... ليتك كنت أسوة.

| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) اضغط هنا

 

تسجل في النشرة اليومية عبر البريد الالكتروني