كتب الاعلاميّ بسّام برّاك:
هي ثلاثون سنةً عَبَرَت، عرفتُ من حينها ذاتَ تشرينَ جامعيٍّ الصوتَ قبل الشخص ووقعَ الكلمةِ قبل حضورِ القامة...
أمسِ أومأتِ الحياةُ لرجل التاريخ: أن اسْترِح في جغرافيّة تربتك ولَملِم أوراقَ زمنِك ومناهجَ بحثِك وما وَثّقت، ثم خُذها معك عسى اللهُ يحتاجها ويسألك عن ذاكرة مكان، عن أرزة في لبنان نسيها ناسُها.
هكذا، طوى جوزيف نجم لبكي خارطةَ سنيه السبعينيّة ليلةَ تذكار الموتى وهو غيرُ راضٍ عن وطن لم يتصالح مع تاريخه، ولم يحسم شجنَ حدودِه، ووافى ربَّه بمحاضرة لم تسمعها السماء منذ رحيلِ المؤرّخين النادرين ومنذ ارتفاع المفكّرين الى رتبة الإيمان بشَهقة العقل!
قبل ثلاثين سنةً كنتُ طالبا في كليّة الآداب والعلوم الإنسانية في جامعةٍ لبنانية مصابة بتوعكات الدولة وما يفرِّق بمنطق المحاصصة.
لم يُلقّني الدكتور لبكي فيها مادةً عن قُرب بل عن بُعد، ولم يكنِ البُعد آنذاك إلكترونيا إنما عبارةٌ عن مكتب العِمادة على مرمى منحًى من قاعاتنا، فيأتينا صوتُه معمَّدا بالنخوة والثقة، وتبتكر لوجهه سماتٍ توضحُها نبرتُه.
هذا ما تنامى الينا من العميد لبكي، من الهادرِ موجَ كلمات، والخطيبِ عباراتٍ وصفحات. وحين التقيناه للمرة الأولى في يوميّات الامتحانات صارتِ الاختباراتُ الصعبةُ سهلةً أمام علوّ علامتِه الأدبية، وبتنا في امتحان صعبٍ إزاء حضورِه ولغتِه وجلاءِ ثقافته...
إنكسارٌ هو الرحيل لمن يبقَون وليس لمن يرحلون. فالدكتور جوزيف لبكي سليلُ بعبدات هو. جبلة الصخر ونسمة الأحراش هو، وطينة الكلمة وتربة الأوراق... كتب فوقها سطورًا زمنية وترك دونَها مشروعاتٍ وأبحاثا لم يُنهها لبغتةِ الموت... لم يُنهها عن وطن قديم عتيق يسردُه لأجيال يضيء لها سراجَ المعرفة في عتمة اللحظة .
وها هو يفتقدُه بيتُه والدا رائدًا، وجامعتُه أستاذا فذّا، وكليّته عميدًا عمدةً، وقراؤه كاتبًا لم يكلَّ من النحت والبحث حتى أواخر أيام لم تكن محسوبةً له فيها الأواخرُ...
قبل ثلاثة أسابيع، من أفولِه المفتعلِ ربما ليسريَ صوب ابنتِه جنى، وقد سبقته بمواسمَ الى زرقة السماء فاشتاق يحتضنُ خضرةَ جناها، قبل أسابيع تهاتفنا وكان يكلّمني عن هذه المشهدية الأسبوعية كما أتلوها "صورة صوتيّة" عبر موقع إذاعة "صوت كلّ لبنان" مفاخرًا بسماعه كلام الأدب من طالب تتلمذ على جامعة هو عميدُ عمداء آدابها . أتاني صوتُه صاخبًا هادرًا لا وعكةَ لفظيةً فيه، ولا بُحّةَ أدائيةً تشوبه كما لو انه في زمن الجامعة أواخرَ الثمانينيّات.
لم يُوحِ لي يومَها بأنه على موعد مع الفراق، واستعجال أو تعب من البحث والتاريخ وال"لبنان"... لكن من يدرك ما في جَوّانية الآخَر؟ من يعرف لماذا جوزيف نجم لبكي اللغويّ الإنسانيُّ الناثرُ التاريخَ أفقيًا على مدَيات الأرض والبلدات، لماذا اعتزمَ الغياب تاركا أسرة بنَوية أقلُّ ما غرسه فيها الانتماءَ والعلمَ والثقافة ومخلّفا أسرةً جامعية عمداؤها مرجِعُهم عِمادته، ومنفصلا عن شقيقه توأمه بالكلمة، أبينا منصور لبكي، زارعًا في صليب كهنوته شوكة لا تُقتلعُ بعد اليوم حتى لو مَولَدَ المونسينيور منصور للقيامة ترنيمة.
جوزيف لبكي افتقادٌ وطنيٌّ، ووطني مفتقَد، وحتى يصحوَ وطنُنا من عثرة سياستِه وإدارتِه وحكّامه يكون جوزيف لبكي قد تعمّد بماء كلمته وروحِ صوته... ومَن لكلمته ماءٌ فحروفُه زيت، ومَن لصوته روحٌ فَلرحيله صدًى يُرى ويرافق الباقين ولا يزول.