في مدرسة الجنّة، تربّصت جهنّم...
في مدرسة الجنّة، تربّصت جهنّم...

خاص - Monday, January 20, 2025 2:50:00 PM

مارفن عجور

يا أسفاه! يا للهول! يا حسرتاه! هي كلماتٌ نطقها الشعب اللبناني ليلَ الجمعة عندما ضجَّت وسائل التواصل الاجتماعي المَرَضية بخبر وفاة الشاب جو سكاف إبن الإحدى عشر عامًا ... إنّها كلماتٌ لم تتردّد فقط في لبنان إنّما في العالم أجمع .. وما نفعها؟ إن كنّا نقتل بعضنا بعضًا ومن ثمَّ نعود ونتحسّر على الجرائم التي ما مقترفوها إلّا نحنُ؟ فمَنْ سوانا غاص بسحرِ التكنولوجيا وما أدركَ عواقبها؟ مَنْ سوانا زاحَ عن صراطه المستقيم؟ فأكرم حاسوبه اللئيم؟ ونسيَ أنَّه يملكُ عقلًا كريم، سليم، حليم، لو استثمره لكانَ غنيم.


أكتبُ هذه المقالة، وقلمي يتدحرج بين السطور، ولساني يتلعثم في التعبير، وذهني منشغلٌ في حالةِ أب جو وأمه وأخيه وجدّيه وجدتيّه وأشقائه وأعمامه وعماته وأخواله وخالاته. أكتبُ هذا النّصّ ودموعي تنسال عبر أوراقي ، كأنّها أمطارٌ عزيرةٌ أترنّخ تحتها ولا أكادُ أصل إلى مكانٍ دافئ وسليم وآمن ينقذني من العاصفة السوداء تلك. تكاد تسكر نفسي بخمرة مشاعري وأكاد أغمّس وجداني العميق في مهالك البشريّة اللامتناهية. القلم لا يرتاح وماسكه لا يرتاح. فالكاتب صاحب العاطفة الأقوى يكاد يموت كلّ يوم وهو يتقطّع أشلاءً على واقع دنياه، فالشرّ مكث شرقًا غربًا شمالًا جنوبًا. الشرُّ يحتسي صباحًا فنجانَ قهوته على شرفاتنا ليظلّ مستيقظًا يتربّص بنا ليلًا نهارًا، ونراه يفتك بنا فهو البعيد بُعدَ الجبال عن الرحمة؛ أمّا الخير فوضّبَ حقائبه وارتحل بعيدًا عن منازلنا وكأنَّهُ يقاصصنا على اختياراتنا المخطئة، يقاصصنا على ضعفِنا، فكان لغريزتنا أن تتغلب على إرادتنا.


جو إيلي سكاف الشاب البهيّ، صاحب الوجه البشوش ، والروح الطيّبة؛ في لحظةٍ شيطانيّة خسر نفسه وما لبثَ أن فارقَ الحياة. والسببُ تقليدُ تحدٍّ عبر تيكتوك، عامل مضر للتنشئة الاجتماعية.


في مادّة علم الاجتماع هناك درسٌ عنوانُهُ 《 التنشئة الاجتماعية》 كذلك درسٌ يكمّل هذا الدرس عنوانُهُ 《 عوامل التنشئة الاجتماعية 》 وهذان الدرسان يعرّفاننا على مفهوم التنشئة الاجتماعية، وظائفها، مقوّماتها، كما وكيفية ممارستها عبر المجموعات الاجتماعية. والتنشئة الاجتماعية بمفهومها تعني الاهتمام بالإنسان وتطوره في محيطه الاجتماعي وبيئته اليومية، ومن شأنها أن تحول الإنسان -تلك المادة العضوية- إلى فرد اجتماعي قادر على التفاعل والاندماج بسهولة مع أفراد المجتمع.
هي عمليّة دائمة؛ ذلك لأن مجموعات التنشئة أساسية وثانويّة ترافق الفرد في جميع مراحل عمره. كان أن تعلّم جو ثقافةً التقطها عن والديه في مكان التنشئة الأول العائلة، ثقافة شملت القيم والمبادئ والعادات والتقاليد، ومن ثمّ انتقل إلى المدرسة بحيث كانت المحيط الثاني الذي ساهم في تكوين شخصه، وفي لحظةٍ غير متوقعة، تربّصت جهنّم في مدرسة الجنة -إسم المدرسة التي يتلقّى فيها جو دروسه-

جهنّم! جهنّم! وبئس المصير! فاجعةٌ ويا لها من فاجعةٍ! هذا ما يسمّونه الشبح! لقد نهشَ الشبحُ بأسنانهِ جو، فقد ابتلع الكرواسان لقمةً واحدةً وخنقته وما استطاع أحدٌ إنقاذه. إنتقل إلى مثواه الأخير، رحل إلى الدنيا الحق، بين أحضان القديسين، هناك حيثُ الإيمان والسلام، هناك حيث سيرقد جو ملاكًا سماويًّا. هو الذي سيسكن الجنّة، في عالمٍ غاضبٍ على جرائم الأرض، الجرائم التي اقتنصت جو، وسلبته رفاهيّته. هي التي سرقت منه طفولته، أمنه، أمانه، طمأنينته، ضحكته، براءته. سرقت منه الحياة. يقولون إنَّ الربيع سيّد الفصول، فأيُّ ربيعٍ بعد ذلك العصر؟ وكلُّ يومٍ يُصيبنا فصل الشتاء بالأمراض ولا يدعنا نستمتع بعطر الزهور في روضة الوعود. أنتم يا شباب العالم أتراب المستقبل، أنتم الذين معكم نعيش فحوة الربيع، فكلُّ ركنٍ منكم وردةٌ تزهّر بفكرها وذكائها ابتكاراتٍ وانجازاتٍ وأعمالًا لا تنضب. أنتم يا شباب العالم تفتّتون عظامنا، وتكسرون قلوبنا، وتقشعرون أبداننا، كلّما رحتم تسجّلون أسماءكم على قافلة شهداء انفجار التكنولوجيا، وكلّما رحنا نذيعها عبر التلفزيونات، وعبر الصحف، وعبر الجرائد، فتصبح حديث البلاد، ويتناقلها الناس في المناطق والمنازل والمقاهي، نذيعها وألسنتنا ترتجف خوفًا ورعبًا على مستقبل البشريّة الضبابيّ، وما هي الدموع إلّا سجينة في عيوننا، وما هي الإرادة إلّا السلاح الوحيد الذي فيه نتذرّع لكي نقاتل أوجاعنا التي غرستها بنا زلازل وكوارث الأخبار الدامية التي تهدّ قلوبنا هدًّا، وتهزّها هزًّا، فنعلَق تحت الأنقاض ولا مِنْ مغيثٍ ليخلّصنا.

الآن، لبست كسروان إحدى المناطق المستهدفة في جريمة العصر -منطقة الطفل جو- ثوبها الأسود، تشيّع جو وتبكيه وترثيه. أحد شبّان العالم خطفه انفجار التكنولوجيا المروّع، فقنابلٌ وقنابلٌ وقنابلٌ قضت عليه وحرقته.

وفي الختام، عسى أن يكون جو سكاف درسًا لنا لنستعيد ثباتنا يعد أن تزعزع فصرنا مزركشين بألوان غامقة، أضاعت طريقنا، ورمتنا في الوادي، حيث تقوّس ظهرنا، واعوجّت أقدامنا،وعرجت أيدينا، وبتنا كتلةَ أوجاع، كعجوزٍ في آخر عمره. بتنا في زمنِ الأوبئة المتوالية. بتنا في زمنِ اللاوعي الخارق لنبوغنا وبصيرتنا وإدراكنا. بتنا في زمنِ الميل إلى اللّذات بلا حدود الخارق للحفاظ على الذات. بتنا في زمن لا نفهم فيه شيئًا، لا شيء، نحن فيه فقط السلعُ والأشياء، ومجرد حبة رمل لا قيمةَ لها.

ومتى ستتوقّف الأمواج عن الهبوب؟ ستملُّ الشمسُ من الغروب؟ وسيسأم الإنسان من اقتراف العيوب؟
إنَّ الثقافةَ الصائبة هي رادعٌ لاستمرار الثقافة المشوّهة. فإن كنتم تريدون غدًا مزدهرًا، اصنعوه بكلّ ما أوتيتم من فطنةٍ، وهلّموا فتّقوا أذهانكم بالعلمِ وأقبلوا عليه إقبال النحلة للعسل، وليكن سبيلكم الدائم تطوّركم وتغيير العالم بشغفكم وطموحكم.

ولكم فرصةٌ متجدّدةٌ بعد كلِّ خفقة!
ولروح جو، الرحمة والسلام!

| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) اضغط هنا

 

تسجل في النشرة اليومية عبر البريد الالكتروني