مارفن عجور
تحتاجُ البشريّةُ، أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، إلى الثقافة لتنهضَ من العزلة القاتلة التي تقبع وسطَها. ففي عالمٍ ينبضُ همجيّةً، ويتوهّجُ نارًا لا تُخمَد، تنحفُ البشريّة، وتتظمأ إلى كلّ معايير الثقافة. فإن مقياس وزن البشريّة الثقافة. الثقافة بجميع أنواعِها مفقودة وللأسف الشديد اجتاحت الثقافة المناقضة عقول الناس وقلوبهم فانتشرت فيهم الأوبئة وكثرت الأمراض.
وإن كانت الثقافة الجسر الذي ينقل البشريّة من موقع الظلام إلى موقع النور، من موقع القسوة إلى موقع الإنسانيّة، ففي غيابها، لا يكفّ الليلُ يحلّ على أيّام البشرية، ليلٌ قاتمٌ ضبابيٌّ، مصيرُ البشريّة فيه مجهولٌ، وإن أشرقت عليها الشّمس، فهي لا مَحالة شمسٌ سوداءٌ لا شعاع فيها ولا اصفرار، لا طاقة فيها ولا حيويّة لتبعثها إلى سكان الأرض الواحدة.
نعم، هكذا بدت البشريّة، نحيفة بنقاوتها، سمينة بدنائتها، تختبئ وراء لذّاتها وشهواتها، تهرب من العمل الجاد والمسؤول، تهرب من العاطفة. تكتسب ثقافة الشتائم، تهذّبها، تنمّيها، ولا تكلّ ولا تملّ من تعلّمها. إن طعم الثقافة المشوهّة ألذُ بكثيرٍ من طعم الثقافة الصائبة؛ لذلك، نجد الناس على الدوام يأكلون ما لذّ طعمه وكثُرَ سكرّه، ولا يعلمون أن ملحَهُ هو أثقلُ من سكّره، فإن بلغ الإنسان ذروة السعادة لدقيقة ومضغ ما يحلو إليه، لندم طوال الدقائق المستقبليّة لأنّه جَعَلَ مِنَ الدقيقة حياة ومن الحياة هراء. تناول الملح يُؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم، فهو أيضًا يرفع احتمال الإصابة بأمراض القلب والشرايين، هذا ما أثبته العلم، أمّا الواقع فيُثبِتُ لنا ذلك أيضًا، فمرض القلب لا بدّ منه حتميٌّ، ذلك لأنّك كلَّ ما لجأت لتلبية رغباتك ولذّاتك، إضطرب قلبك وخالجته مشاعرٌ متوهّجة لا تسكت، يريد فقط السعادة وهو لا يعرف معناها، يلاكم قلبه عقله، وعلى حلبة الصراع يتفوّق القلب ويخسر العقل. هكذا هو الإنسان 《 يختار الطريق السهل، يرفض الطريق الصعب 》. ورد في الكتاب المقدّس في إنجيل متى المقطع التالي 《 أدخلوا من الباب الضيّق. فإن الباب رحب والطريق المؤدي إلى الهلاك واسع، والذين يسلكونه كثيرون. ما أضيقَ الباب وأحرجَ الطريق المؤدي إلى الحياة، والذين يهتدون إليه قليلون. 》 ويتحدّث الفيلسوف آوشو عن اللذة فيقول : " اللذة مؤقّتة وتنتمي إلى الوقت، إنّها 《 في الوقت الحاضر والطوبى غير زمنيّة، أبدية. للذة بداية ونهاية، والطوبى تمكث إلى الأبد 》. اللذة تأتي وتذهب؛ والطوبى لا تأتي أبدًا ولا تذهب أيضًا، فهي متوافرة بالفعل في جوهر كيانك." في المختصر المفيد، إن مشكلة المشكلات هي اللذات الآنية، فهي سبب نحافة الإنسان، والإنسان ركنٌ من البشريّة، فمتى سقطت حجارة واحدة تهدّم مبنى البشريّة القائم على الثقافة التي ينبع منها جوهر القيم والأخلاق والمبادئ. وهنا لا نتحدّث عن نحافة فقط بل عن زوال واضمحلال لا بل عن دمار.
لا يكتسب الإنسان ولا يزوّد بالمعرفة إلّا إن أراد، ولكن في عصرِ السرعة أيُّ إرادةٍ؟ وأيُّ معرفةٍ؟ فالعلاقة بين عصر اليوم وإنسان اليوم السرعة والتهوّر أيًّا كانت النتيجة ... يقولون إنّ المكتشفات الحديثة سهّلت على الإنسان الكثير إلّا أنّها في الحقيقة صعّبت عليه الكثير والكثير ... في الأمس، كانوا إذا عندهم بحثًا معيّنًا للقيام به، يشعلون عقولهم أفكارًا ويحضرون أوراقهم فيملأونها حبرًا بمعلوماتهم ويمكثون ساعاتٍ لينجزوا ما توجّب عليهم، أمّا اليوم، فالأوراق تُكتب بدقيقة، هذا إن كان لها وجودٌ، فمَنْ غير التطبيقات الهائلة التي تحملها التكنولوجيا سهّلت على الإنسان أبحاثه ومشاريعه؟ أيعقل أن ينال الإنسان شهادته وهو لا يدرك قيمتها؟ أهكذا صار يكافأ الإنسان؟ يعتبر أنّه إذا حاز الشهادة وصفقّت له الجموع، ولم يتعب، فهو كوفئ، ولكن أيّ مكافأة؟ فالإنسان محتالٌ إن شعر بذلك أم لم يشعُرْ، يكرَّم ولا يكرِّم نفسه، يفرح لفرح الناس بإنجازه ولا يتذوّق معنى العذاب للإنجاز كأنّه يخدعهم. يقولون 《 إصعد إلى النجاح درجةً درجةً 》 ويا ليتهم يحاولون! كأنّ الأدراج تهدّمت، كأنّ معنى الإصرار لا محل له في معجم المعاني، كأنّ المرء صار فريسةً للسرعة، يستعجل، يستعجل، ولا يحسب عواقب المستقبل. هذه هي لذّة النجاح. تزول اللذة، والعذاب الذي سيحلّ في الإنسان لاحقًا سيوقنه حقًّا ضرورة البدء وعواقب التأجيل. والخطأ الأكبر تأجيل عمل اليوم إلى الغد، فإن يوم العاجزين الغد. كثيرون الذين يؤجّلون عزيمتهم إلى الغد، فالكلمة الشائعة على الدوام، عاللبناني : "معليش آخر مرّة منغلط." ينطق بهذه الجملة مؤجّلو عزيمتهم والمستهترون بمستقبلهم. نقول لهؤلاء ونسألهم : "أفلا تخافون نقطة اللارجوع؟ النقطة التي حدّثنا عنها الروائي الفرنسي غيوم ميسو في روايته "عائدٌ لأبحثَ عنكَ." حقًّا أيّها الإنسان، هل تودّ أن تحاسب بالبحث عن نفسك مرّةً أخرى؟ إمّا أن تنطلق من الصّفر، أم ستتسلّق القمم دون جدوى، فتصل نحيفًا، خاليًا من الحِكَمِ والمعارف والثقافة ... هل تقبل أن يخلو رأسك من حكمة؟ ألّا يقول المثل : "لا يخلو رأسٌ من حكمة؟" عليكَ أن تبدأ من الآن ... الآن أو قطعًا إلى الأبد. عليك أن تخسر كلّ شيء على أمل أن تربح كلّ شيء. عليكَ أن تتغلّب على غريزتك، ومكنوناتك، ورغباتك الآنية، أن ترتّب فراشك وتغطّي وسادتك بلحافك، فيكون اللحاف الحاجز الذي يفصلك عن منطقة راحتك. فالوسادة المريحة الآن، تولّد الأمراض في قابل الزمان، التشنّجات، انخفاض طاقة الجسم، مشكلات في الذاكرة. عليكَ أن تخرج من غرفتك عند الصَّباح، أن تقفل باب الغرفة في مفتاحِ الإرادة، فلا تعود إليها إلّا في وقت الاستراحة. وهكذا إذًا، تصير إنسانًا منتجًا، فعلى قدر طاقتك يكون إنتاجك. هكذا إذًا، تتغذّى بالمعارف والخبرات، تشتري من مخابز الجامعات حلوى المعرفة، فتحمي جسمك من السّموم، وتزوّده بفيتامينات الثّقافة، فتتطلّع بالاستقرار الفكري.
يقترف الإنسان أفظعَ الجرائم بحقّه وبحقّ أخوانه الناس عندما يتسابق وإيّاهم نحو اللّذات فلا يثمر إلّا ثمارًا خبيثةً كشجرةٍ فعقابها أنّها تُقطَعُ وتُلْقى في النَّار لأنّها
جلبت للبشريّة إلّا الخراب، حتى خُيِّلَ إليها أنّها تقطن في مبنى مزركش بألوانٍ داكنةٍ، لا تُشرق على منازله الشّمس. مبنى منعزل، منفيّ، مهجور، كأنّها نهاية العالم، كأنّها نهاية النعيم. فالجنّة تسكن البشريّة والبشريّة تأباها.
"ماذا يَنفَعُ ٱلإِنسانَ لَو رَبِحَ ٱلعالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفسَهُ؟ وَماذا يُعطي ٱلإِنسانُ بَدَلًا لِنَفسِهِ؟" ورد هذا السؤال في إنجيل القديس متّى، وارتباطه باللّذات يكمن في طمع الإنسان بثروات العالم كلِّها دون أن يثابر ليربح نفسه فيربح العالم. على الإنسان أن يواظب على تطوير ذاته على جميع الصعد، وهكذا إذا خلق من نفسه مكوّنًا وتمثّل به الناس ... فيمسون مجموعات مكوّنات تختلط ببعضها البعض وتصنع قالبَ حلوى تتلّذذ به المجتمعات، فهو ذاك القالب الذي تتجلّى فيه أطعمة الابتكار والمهارة والعلم.
يفقد الإنسان في عصر اليوم حسَّهُ على القراءة التي تهذّب لغته وتسهم في نجاح تواصله مع الآخر فيفقد في ذلك دمًا في عروقه. فالدم الذي نقصده هنا هو القراءة فهو الصديق الأوفى وأبقى من كل الناس. الإنسان محتاجٌ إذن إلى خبز آخر هو خبز المعرفة، وهذا الخبز لا يجده إلّا في معاجنه الخاصّة، أي الكتب. الكتاب هو الذي صنع العظماء وخلق العبقريين. أليست الدنيا كلّها هي كتاب الله الأعظم؟ أليس بالكتب وحدها يحيا الإنسان؟ ولكلّ إنسان كتاب يحمله بيمناه حين يقف بين يديّ ربه؟ فالكتب هي سجلّات المعرفة المماثلة دائمًا بين يديه، أمّا السينما التي لا تخلف مواعيدها، فهي معرفة أيضًا، ولكن معرفة عابرة، ضائعة بعد حين، كما قال الشاعر :
كل علمٍ خارج القرطاس ضاع كلُّ سرٍّ جاوز الإثنين شاع
فعلى الإنسان، أن يضع نقاط ضعفه نصب عينيه. طرقٌ في علمِ النّفس، تجعلك تواجه مخاوفك عندما تضعها أمامك، كأنّك تشاهد فيلمًا للمرّة الثانية بعد أن أرعبك في المرّة الأولى ... وهكذا دواليك، تألف المشاهد وتتخطّى حالة الذُعر التي أنت فيها لا بشكلٍ نهائي بل بشكلٍ شاسع عمّا كانت الحالة عليه من قبل. إنّها الإرادة، ومن أراد استطاع.
إنَّ الغرائز البشريّة أصبحت في عصر العجائب أسرعَ من الذكاء البشري. إنَّ تأثير العصر على الإنسان صار أقوى من الإنسان نفسه فهو لا يمكّنه أن يكون نفسه. يقول الفيلسوف آوشو في كتابه العميق "الفرح" : " لا يحتاج المرء أن يفعل شيئًا ليكون نفسه، فهو كذلك بالفعل. وكيف يمكنه أن يكون غير ذلك؟ كيف يمكنه أن يكون أحدًا غيره؟ المشكلة تكمن في المجتمع فهو يفسد الجميع. يفسد الذهن يفسد الكيان يفرض الأمور على المرء ويفقد الاتصال بنفسه. يحاول أن يجعل منه شيئًا آخر. يُخرجه عن نقطة ارتكازه. يجرّه بعيدًا من نفسه. لا يسمح له بالحريّة، يفرض على ذهنه صورةً خارجيةً غريبةً."
نختم قائلين شاهدين أنَّ البشريّةَ قد أصابتها إعاقة مزمنة، شوهّتها، غير قادرة على المشي والمضي قدمًا نحو التطوّر الإيجابي، شُلَّت وجلست على كرسي متحرّك. تعيش اليوم على ماكينات الأوكسيجين، تتنقلّ في المستشفيات لتتعالج بعد كلِّ كارثة تدقّ بابها. فهل تعي يومًا أنّها تخطئ بحقِّ نفسها؟ أم تنتظر لتقترب من الحافة وتهرول نحو الخلاص قبل أن تسقط في الهاوية؟ وإلى متى سيظلّ حراكُها هابطًا؟ أيعقل أن تعيشَ فقيرةً طوال حياتها؟ فقيرة القيم، فقيرة الإنسانية، فقيرة الثّقافة، فقيرة اللّغة، فقيرة الحبّ، فقيرة السّلام.
إلى متى سيبقى العنفُ سلاحَها؟ والدمُّ مرادَها؟
متى تكون البشريّة بشريّة؟ ومتى يكون الإنسانُ إنسان؟
متى؟