القلق الوجودي المسيحي بين بكركي وبعبدا
القلق الوجودي المسيحي بين بكركي وبعبدا

خاص - Thursday, August 20, 2020 4:23:00 PM

النائب فريد البستاني

عاش المسيحيون ومعهم لبنان فترة رخاء مارسوا خلالها ترف الوقت والخلافات، حتى إندلاع الحرب الأهلية وصولا إلى الإجتياح الإسرائيلي ومن بعده إتفاق الطائف، وفي كليهما زمن التدخلات والرعايات والوصايات الخارجية، إنتهاءً بما نحن عليه اليوم من خطر يتهدد لبنان، ومعه يتهدد الوجود المسيحي فيه. وذلك كله للأسباب الاقتصادية التي تتسبب بالهجرة الكثيفة، وما يرافقها من تضاؤل في الحضور الشعبي والسياسي المسيحيين، وللأسباب السياسية الدولية والإقليمية، وما فيها من تغير جوهري في الاهتمام الغربي بالوجود المسيحي ومن خلاله النظر لهوية لبنان، ووقوع لبنان على خط الصراعات الكبرى، في قلب صحوة مذهبية بين الشيعة والسنة. ينمو خلال هذه الصحوة التطرف السني الذي يهدد المسيحيين وجودياً، في ظل تحبيذ الغرب للمحور السني عربياً، ودفعه للتطبيع مع إسرائيل دون الأخذ بالإعتبار لأي شرط لحل القضية الفلسطينية بصورة ملائمة تنهي هواجس لبنان، خصوصاً حول مصير اللاجئين الفلسطينيين وخطر التوطين، وينمو خلالها التهديد الغربي  للمحور الشيعي الذي تمثله إيران وحلفاؤها، وفي طليعتهم حزب الله، والغرب هو المدى الحيوي التقليدي للمسيحيين ثقافياً وإقتصادياً وسياسياً، الذي لا يمكنهم تخيل العيش خارجه، رغم التغير في نظرته ورغم ما يعطيه من أولوية للمكانة الإسرائيلية في حساباته، ويقع لبنان في صدارة المتضررين منها.

تاريخياً منذ الإستقلال وحتى الحرب الأهلية، عاش المسيحيون في ظل الخلاف بين البطريركية القوية والرئاسة القوية، فكان هذا هو الحال بين البطريرك أنطون عريضة والرئيس بشارة الخوري والبطريرك بولس المعوشي والرئيسين كميل شمعون وفؤاد شهاب. فتناوب البطريرك القوي والرئيس القوي على رسم السياسات، وعموماً حظي الرؤساء بعهود يرسمون سياساتها، ولكنهم رحلوا من الرئاسة بفعل الغضب البطريركي، إما بإنهاء تمديد أو مشروع تمديد، ولم ينتبه المسيحيون، ولا إنتبه رؤساؤهم وبطاركتهم إلى ما تشكله العلاقة بين بكركي وبعبدا من صمام أمان للبنان عموماً وللمسيحيين خصوصاً.

تنظر بكركي للبنان الكبير كثمرة من ثمار دورها التاريخي الذي جسده البطريرك الياس الحويك، ورعاه من بعده البطاركة، ومن هذا الموقع تنبثق المداخلة البطريركية التي تعتقد بحقها في إمتلاك حق الفيتو على السياسات الرئاسية التي تعرضه للخطر، وينظر تقليدياً كل رئيس للجمهورية للنصف الأول من عهده بعيداً عن بكركي ليكتشف في النصف الثاني أن مصير عهده سيتقرر من خلال علاقته ببكركي.

خلال الحرب وبعدها واصلت القيادات المسيحية محاولة إستنساخ ما يجري في الساحة الإسلامية، حيث قوة الموقف تقرره العلاقة بين الأحزاب، وتصدرت الجبهات السياسية المشروع المسيحي، فتهمشت الرئاسات ومثها تواضع وتراجع دور بكركي، رغم اللحظات القليلة التي ظهرت فيها مبادرات وأدوار على ضفتي الرئاسة والبطريركية سرعان ما تجاوزتها الأحداث واللعبة الحزبية.

في أيامنا الحاضرة يجب أن نعترف بأننا لا نملك ترف النقاش والإختلاف وليس فقط أننا لا نملك ترف الوقت، بل أننا لا نملك ترف الرهان على التحالفات الداخلية والخارجية، فجسر بعبدا وبكركي المتين يعني عبوراً آمنا للأزمات، وتهاوي هذا الجسر أو هشاشته سيعني حكماً عبوراً محفوفاً بالمخاطر، وهي هنا مخاطر السقوط إلى هاوية سحيقة لا قيامة بعدها.

جسر بعبدا وبكركي ليس جسر مواقف، بل جسر مواقع، فليست مشكلة أن يكون لكل من الموقعين سياسات ومبادرات تختلف، فهي ربما تتكامل من موقع الإختلاف، الأهم أن تتلاقى المواقع ولا ينتقص أحدها من حيوية وأهمية الآخر، وأن تنسق فيما بينها وتحمي إحداها الأخرى، وتلتزم كل منها للثانية بعدم إتخاذ قرارات مصيرية إلا بالتشاور والحوار والتنسيق، بحيث يتم توظيف مصادر القوة التي يملكها كل من الموقعين ليكون فرصة قوة مضاعفة للبنان، وللمسيحيين. وفي زمن الحديث عن سقوط سايكس بيكو، والسعي لعقد سياسي إجتماعي جديد، يخشى أن يضيع معهما لبنان الكبير ودور المسيحيين في لبنان والمنطقة، وبديل جمع مصادر القوة هو أن تستثمر كل من المرجعيتين مصادر قوتها لموازنة مصادر قوة المرجعية الأخرى، فتضعفان ويضعف المسيحيون ويضعف لبنان.

إن وجود رئيس كالعماد ميشال عون بتاريخه الوطني ورؤيته الإستراتيجية وموقعه الفاعل في الشارع المسيحي وتأثيره على مواقع لبنانية وازنة ومؤثرة، ووجود بطريرك كالكاردينال بشارة الراعي بثقافته وخبرته وشجاعته وعلاقاته الواسعة في الداخل والخارج، ومكانة الكنيسة لدى جمهور المؤمنين، يمكن لهذا التكامل أن يؤسس لخلاص لبنان وحماية مسيحييه، فهذا هو جسر العبور في زمن العاصفة، ولا جسر سواه.

| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) اضغط هنا

 

تسجل في النشرة اليومية عبر البريد الالكتروني