الاعلامي بسّام برّاك
كم يليق الأسودُ ببيروت!
نعم. عاصمةُ النور ، إذا ما خلعت عليها ثوبَ الحداد تتأنّق بالحزن العالي، فليس كلُّ من يحزن يتجمّل، وهذه المدينةُ يزيد ألقُها حين تدمع؛ دمعُها مطرٌ الى فوق. ويرتفع قدْرُها حين تخشع؛ خشوعُها جبينٌ من ضوء.
إنها سِمةُ بيروت بما فيها من مناطقَ وبلدات وشوارع، التمّت كلها على الوجع وشاركها لبنانُ من مرفئه الى مرافقه، من بحره وسهله الى جبله وسمائه.
وها هي الأميرةُ بيروت تقف فوق رخام الأبطال تُواريهم واحدًا تلوَ الآخر، ترسلُهم الى ضِياعهم وبيوتهم، صوب أمهات ما عادت مناديلُهن تسع العَبرات وآباء لم يبقَ في تنهيداتهم إلا شيبُ السكوت. ولا تزال المدينة الكبيرة تُمعن بارتكاب بطولاتِها، فهي لا تخاف انفجارا يتلطّى في عنبر من دون اسمٍ وهُوية، ولا تتعب من آخات آلاف الجرحى وتساقُطِ دمائهم من سطوحها الى مداخلها بل تمزج دماءَ شهداءِ الماضي وضحاياه بضحايا الحاضر وشهدائه، وتكملُ الطريق بقامات جديدة: فمن دماء من رحلوا ورمادهم يولد أبطال آخرون!
...ومن قال لكم إن الشهادة تكمن عند بوابة الوطن شرقا وغربا ، وإن الأبطالَ موسومون بحدّ الحدود وظقصورون عليها؟! لا، كل بيت حدٌّ وترسيمٌ لوجه البطولة، ومن لا يعرف فلينزل إلى بيروت، إلى حيٍّ سكنه الناسُ أكثرَ مما سكنته حجارتُه، الى بيوت استُشهِدت مع أصحابها، والمعتدي صامتٌ لا يجرؤ على التصريح بصفته الداخلية أو الخارجية.
من لا يدرك فليأتِ إلى حيث جدارٌ سقط على رأس أمٍّ، إلى حيث تدمّر عمرٌ من تعب، وتطايرت أشلاءٌ من ذاكرة، وامّحى شارع وترمّدَ مكان...
بيروتُ المتتاليةُ الحِداد على ذاتها تعرف كيف تستردّ ثوبَها الأبيض من ضحكات شهدائها في صورهم المعلقة على القلوبِ الموَلّهةِ من انفجار عنبر هُيّئ على نار الإهمال من هذا، والتواطؤ من ذاك، والتسلّح من ذلك، وغضّ الطرف ممّن يعلنون أنهم ليسوا طرفا في النزاع...
وعلى حدّ ما يقول الكاتبُ اللبناني العالمي أمين معلوف" هذه مافيا محليّة استعدت لبيع المنتَج في العنبر حين تسنح الفرصة"...
وبعد، نقول: لولا القمحُ في العنبر المجاور لكان الموتُ أكثفَ، فالقمحة تموت لتزهرَ حياة. "إنشالله القمحة يلي انزرعت بقلوبنا تموت وتنمى وتزهّر محبة " رتّلها المونسينيور لبكي ، وقمحات المرفأ غطُت بحر بيروت لتخفّف من وطأة الموت في بحر الدماء ولاحت سنابلَ رجاء!
في بداية الحرب في أسواق بيروت ، غنت فيروز "رجعت العصفورة تعشّش بالقرميد... بس يلي راحوا راحوا "، لكن بأيّ سلام وحلول ومحاكمات عادلة تَعدوننا أيها الغارقون في سقطات حكمِكم؟ بأيِّ لغة بناءٍ لوطن ستتكلمون، وبينكم وادٍ سحيقٌ من القتلى الأبرياء، وبينكم لاجئون من كلّ جنس ولون تكحّلون بهم تذكرةَ عبوركم، واتفاق قاهرة تخرّبون به بلادَكم، وطائف تطوفون بنصوصه لتبتلعَ امتيازاتِ رؤسائكم. بأي ملف ستبحثون في السياسة والتحزُّب وتبكير انتخابات وتأخير خلافات وأنتم وقّعتم وثيقة طلاقٍ وبطلانِ حياة وطنية في ما بينكم؟!
غدًا سوف تُعَمّرُ البيوتُ بتربة القلوب المؤمنة، وكلسِ الأيادي العاملة، وطين الضمائر الحيّة، إنما من ينظّف مواقعَكم النتنة لكثرة فسادِكم، وكراسيكم المخشّبة لطول جلوسكم ! وحتى لو وقفتم وتبتُم واستغفرتم، فربي لن يسامحَكم "ويلي راحوا راحوا" .