في شوارع التبانة بطرابلس، تسكن الحكايات المؤلمة التي حفرتها سنوات الاحتلال السوري للبنان، وخصوصًا في حقبة الثمانينات في تلك الأزقة، كل منزل يحمل قصة عن شهيد، معتقل، أو شخص تعذب حتى انكسرت روحه مجازر التبانة عام 1985 وقصف طرابلس تركت جروحًا عميقة في ذاكرة المدينة.
ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، عاد الألم ليجد رابطًا جديدًا بين الماضي والحاضر، حيث شكل سقوط نظام الأسد حلمًا لأبناء المدينة الذين عانوا طويلًا من بطشه.
في عام 1980، دخل فرسان الأحمر إلى لبنان تحت مظلة النظام السوري، مرتكبين مجازر دامية في طرابلس، وخصوصًا منطقة التبانة. عام 1985 كان محطة مفصلية، حين قُصفت المدينة بلا رحمة، وقُتل المئات، واختفى آخرون في سجون النظام. "أبو عربي"، أحد رموز المقاومة الشعبية في تلك الحقبة، ظل أيقونة نضال التبانة ضد القمع، لكن ذكراه ارتبطت أيضًا بالخسائر الكبرى التي تكبدتها المنطقة.
تعيش التبانة اليوم حالة تعاطف عميق مع الثورة السورية، ليس فقط بدافع القرب الجغرافي، بل بسبب الروابط التاريخية التي جمعت بين ألم الشعبين اللبناني والسوري تحت نير نظام الأسد. المسجدان، التقوى والسلام، يمثلان رمزًا لهذه العلاقة؛ حيث استهدفت التفجيرات تلك الأماكن التي جمعت المصلين الداعمين للثورة، مما زاد من معاناة الأهالي وتلاحمهم مع القضية السورية.
يرى شباب طرابلس، وخصوصًا التبانة، في حال سقوط النظام السوري فرصة للعدالة واسترجاع الحقوق مع ذلك، يطرح هذا التساؤل مخاوف كبيرة حول الوضع الأمني في لبنان هل ستؤدي عودة المعتقلين وفتح الملفات القديمة إلى تصفية حسابات جديدة؟ أم ستتمكن الدولة من احتواء الوضع؟
بين من عاشوا المجازر ومن تأثروا بالأحداث السورية، تظهر شهادات مؤلمة "أحمد"، شاب من التبانة، يتذكر قصف منزله عام 1985 ونجاته بأعجوبة، لكن والده لم يكن محظوظًا. اليوم، ينتظر أحمد أخبار أخيه المعتقل في سجون النظام السوري منذ 2012 أما "فاطمة"، فتروي قصة استهداف مسجد التقوى عام 2013 الذي خطف حياة زوجها وأطفالها.
وفي مدينة طرابلس، التي لطالما كانت مسرحًا للعديد من الأزمات والمآسي، تستمر ذكريات المجازر التي لم تُمحَ من ذاكرة أهلها
شهادات قاسية ومؤلمة، تروي تفاصيل الألم والمعاناة التي لم تنتهِ. يقول عمر الدندشي، أحد أبناء المدينة: "نحن في طرابلس دفعنا دماءً غالية، ما نراه اليوم من فرح في المدينة ضد النظام السوري قد يستغربه البعض، لكنهم لا يعرفون أبدًا حجم المعاناة التي عاشها الشعب الطرابلسي الذي دفع ثمنًا غاليًا من دمه نتيجة هذا النظام خصوصًا في منطقة التبانة التي شهدت واحدة من أبشع المجازر التي يمكن أن يتصورها إنسان لقد كان النظام السوري مجرمًا في حقنا، وما حدث لم يكن مجرد حادث عابر، بل كان علامة فارقة في تاريخ المدينة."
ولا يقف هذا الألم عند جيل واحد، بل تتوارثه الأجيال من دون أن ينسى أحد المظلومية التي عاشها ف"الاحتلال السوري للمدينة، الذي سرق منا أمننا واستقرارنا، ترك جراحًا عميقة لا تُنسى هذا الشعور بالظلم كان جزءًا من هويتنا، وقد زرعناه في الأجيال المتعاقبة حتى الطفل الذي يولد في طرابلس، ينشأ وهو يرفض هذا النظام،" يقول عمر.
ويتابع عمر، وهو يتحدث عن تأثير الثورة السورية على أهل المدينة: "نحن كنا جزءًا من هذه الثورة التي خرجت في سوريا، لأنها كانت ثورة حق كان الهدف من الثورة هو إسقاط النظام السوري الفاسد والمجرم، وأي بديل كان أفضل من هذا النظام الباطل الثورة كانت بالنسبة لنا ركيزة أمل في التغيير."
لكن الفاجعة الأكبر بالنسبة لـ عمر، هي الانفجار الكبير الذي حصل في مسجد التقوى والسلام، وحمل معه مأساة كبيرة نتيجة تدخل النظام السوري "ما حصل كان فاجعة كبرى النظام السوري كان وراء هذا الانفجار الذي ترك أثرًا عميقًا في كل بيت من بيوت طرابلس".
وأضاف عمر، "أنا شخصيًا فقدت أحد أقاربي الذي اعتُقل في سجن تدمر، وعاد فاقدًا لعقله بعد أن عُذب بشكل لا يوصف هذا العذاب كان السبب في انتحاره بعد خروجه من السجن، أي إنسان كان يستطيع أن يعيش بعد أن مر بهذه التجربة؟"
في كل زاوية من التبانة، كانت هناك قصص مأساوية ترويها العيون المكلومة لا بيت في التبانة إلا وقد فقد أحد أبنائه شهيدًا أو معتقلًا على يد النظام السوري "مجزرة التبانة لا يمكن لأحد أن ينسى فظاعتها، أساليب التعذيب التي كانت تُمارس بحق أبناء المدينة كانت قاسية لدرجة أن 1200 شهيد سقطوا في يوم واحد هذا الرقم، رغم ضخامته لا يعبر عن الفاجعة الحقيقية التي عشناها فكل شهيد كان جزءًا من حياتنا، وكان غياب هؤلاء يترك فينا فراغًا عميقًا لا يُملأ."
تظل هذه الشهادات تروي حكاية مدينة رفضت أن تُسكت على الظلم رغم كل ما مرت به من مآسي طرابلس، التي تحمل في ذاكرتها جراحًا عميقة، لا تزال تقاوم بصمت وكل جيل ينقل رسالتها: "لن ننسى، ولن نغفر."
في الزمان والمكان الذي تغيب فيه الإنسانية، يصبح الألم شريكاً دائماً في حياة من عاشوا بين الجدران المظلمة، بعيداً عن الحياة والأمل فكل زاوية وكل تفصيل في معاناة اهالي طرابلس الذين ذاقوا مرارة التعذيب على يد النظام السوري، لا يمكن أن يتخيلها عقل بشري، إلا إذا عاشها هذه الحكايات التي ترويها العائلات اليوم، ما هي إلا شظايا من آلاف القصص التي ستظل محفورة في ذاكرة الزمن.
حكاية سمر وشقيقها المعتقل في سجون السوريين
"في لحظة، أخذوه من أمام عيوننا، أخذوه ونحن في بيته... من دون أي رحمة، من دون أن نعرف ماذا ينتظرنا بعد تلك اللحظة كان شقيقي مع حزب البعث، كان محارباً في صفوف هذا الحزب التابع لصدام حسين وفي تلك الأيام، كان السوريون هم أكثر الناس الذين يكرهوننا" بهذه الكلمات، تروي سمر المأساة التي عاشها شقيقها الذي اختطف أمام أعين العائلة، ثم اختفى في السجون السورية لست سنوات طوال تلك الفترة، لم يكن هناك أي خبر عن مصيره، ولم تكن العائلة تملك من الأمل سوى تلك الذكرى المدمرة.
ومع مرور الزمن، خرج شقيق سمر من السجن، ولكن ما خرج كان جسداً محطمًا، روحاً ميتة، وعينين تغطيهما غشاوة الألم. بسبب التعذيب الشديد والأمراض التي أصابته جراء هذه المعاناة، لم يمضِ على عودته إلى أهله سوى عام واحد، حتى توفي في المستشفى، مستمراً في رحلة الموت التي لم تقتصر على جسده فقط، بل على قلبه وروحه أيضاً.
حكاية كرم وشقيقه الذي قُتل بدم بارد
أما كرم، شقيق أحد الشباب الذين تم تعذيبهم على يد النظام السوري، فقد كانت حكايته أكثر قسوة. يقول كرم: "النظام السوري أطلق النار على شقيقي في قلبه، بدم بارد، ثم تركه ينزف وعندما علم النظام بعدم موت شقيقي بعد، هدد عائلتنا بالنفي جميعاً إذا لم نوافق على تسليمه. فاضطررنا لتسليمها لهم، فقط ليتركوه في غرفة مهجورة، حيث مات بعد فترة من نزيفه."
وما يزيد من قسوة هذه القصة هو أن كرم وعائلته لم يكن لديهم خيار سوى الانصياع لهذا التهديد المروع، في وقت كانوا يتخبطون فيه بين الحزن والخوف وتبقى هذه الذكريات قاسية وصادمة في حياة كرم وأسرته، الذين لا يزالون يعيشون تحت وطأة الخوف والعار من جريمة قتل أخيهم.
حكاية أم سمير ووالدها المفقود في زنازين النظام السوري
لكن المأساة لا تتوقف عند هذا الحد. هناك أم سمير التي لا تزال تذكر كل لحظة مريرة عاشتها بعد أن اختطف النظام السوري والدها، وكان عمره آنذاك 18 عامًا كانت عائلتها تعيش حياة طبيعية، حتى جاء ذلك اليوم الذي اختطف فيه أمام مكان عمله، ليختفي بعدها في سجون النظام السوري لمدة ثلاثين سنة لم يعرف أحد عن مصيره، ولا حتى أحد من أقاربه. وكلما حاولت الأسرة البحث، كان الجواب ذاته: "لا معلومات".
إن هؤلاء المفقودين، الذين لم يعرف عنهم أحد شيئاً طوال سنوات، قد أصبحوا رمزاً للظلم الكبير الذي تعرضت له الأسر، وللقسوة التي مارستها السلطات السورية ضد أي شخص كان ينتمي إلى "الخصم" ورغم مرور الوقت، لا يزال الألم يعيش في قلوب العائلات التي فقدت أفرادها، ويبقى الأمل في أن يأتي اليوم الذي يرفع فيه النقاب عن مصير هؤلاء المفقودين، الذين كانت معاناتهم بلا صوت ولا أمل.
هذه القصص المؤلمة تروي واقعًا كان وما زال يعيش تحت وطأة القهر والتعذيب، إذ لا يمكن للكلمات أن توفي حق تلك المآسي التي عاشها ضحايا النظام السوري ففي كل زاوية من تلك الحكايات، نجد الألم والموت، والدموع التي لم تجف، والقلوب التي لم تلتئم جراحها بعد. يبقى الأمل في أن يتحقق العدالة، وأن ينكشف النقاب عن ما حصل بحق هؤلاء المظلومين ورغم كل شيء، تظل ذكرياتهم حية في ذاكرة اهالي التبانة والعائلات التي فقدت أبناءها بسبب سجون النظام السوري.
وما بين مجازر الماضي وآلام الحاضر، تظل طرابلس، وخصوصًا التبانة، شاهدة على مراحل تاريخية قاسية شكلت وعيها السياسي والاجتماعي. السؤال الذي يبقى معلقًا: هل سيشهد المستقبل طيا لصفحة المآسي، أم أن تداعيات سقوط نظام الأسد ستفتح أبوابًا جديدة من الصراع في لبنان؟