صديقتي "إنتصار"
صديقتي "إنتصار"

خاص - Monday, December 2, 2024 9:46:00 AM

أنطوان غطاس صعب

في أيام الدّراسة الجامعيّة، تعرّفت على فتاة تُدعى "إنتصار"، من إحدى القرى الجنوبيّة العزيزة، وكانت مُتّقدة الذكاء، وخفيفة الظلَ، ودمثة الأخلاق، ولديها ثقافة واسعة نهلتها من القراءة اليوميّة وعلى مدار السّنة.

أذكر جيّداً في تلك الفترة، انني كنت أنتظر بفارغ الصّبر فرصة ما بين الحصّتين التعليميّتين، لألتقي بها في مقهى الجامعة. ويأخذنا الحديث في أحيانٍ كثيرة إلى فضاء السياسات الخارجية والدولية في الغالب، حيث نبدأ من أزمة لبنان ومتفرّعاتها الإقليمية، لنصل إلى الأوضاع في روسيا وأوكرانيا وأحوال "الناتو" والنفوذ القائم في العالم الذي تتزّعمه أميركا.

وفي منتصف العام الجامعي، وقعت أحداث أمنية مؤسفة في البلد، دفعتنا إلى الإبتعاد قليلاً عن بعض أنا وصديقتي "إنتصار"، إلا ما خلا إتصالات معدودة للأطمئنان عن الأحوال، وتبادل الأشواق التي حتّمها بُعد المسافة بيننا.
ثم ما لبثت أن هدأت الأجواء السياسية والأمنية في لبنان، وعادت الدّروس إلى طبيعتها. وفي إحدى المرّات إتّصلت ب"إنتصار" لأخبرها أنني أنتظرها في جلستنا المعهودة داخل مقهى الجامعة، فَتَرَدّدَتْ عن غير عادتها في تلبية دعوتي، ثم ما لبثت أن حضرت. وكانت المفاجأة بالنسبة إليّ. لقد تغيّرت كثيراً عمّا كنت أعرفه عنها. وبانت عليها علامات التبدّل من لهجة حديثها معي.

فلم تَعُدْ ترغب بالحوار معي، وأنما أصبحت هي التي تتحدّث وأنا أسمع. لا بل كلامها صار متعالياً وكأنها غير آبهةً بالرأي الآخر، مع أنها كانت تدّعي سابقاً إنتمائها إلى مدرسة التعددية في وطننا، وعلى قاعدة أنه لكلّ فردٍ في المجتمع حرية التّعبير عن فكره ومعتقداته.

حاولت مراراً أن أسألها عن سبب هذا التغيّر في طبعها وطباعها، لم تُجِبْ ، ربما لتُفهمني أن هذه طبيعتها، وما كانته معي سابقاً هو الإستثناء حتى لا أقول الشواذ، حتى أنها تقصّدت أن تُلمّح إليّ تواضعها في الجلوس معي !
حزنت كثيراً على ما آلت إليها علاقتي مع "إنتصار" لأنني كنت أعزّها شديد المعزّة، قبل أن أستدرك حقيقتها التي حاولت من خلالها إفهامي أنها من بيئة ترفض التنوّع، وعليها أن تتماهى معها، ولو على حساب صداقتنا. فهذه البيئة دائماً مُنتصرة، وغيرها مغلوب على أمره وعليه الخضوع لها.

وضعت يديّ في جيبيّ وأنا في طريق العودة إلى الصفّ، وأنا أُفكّر في "إنتصار"، وهذه التركيبة السحريّة التي يطلقون عليها إسم الصيغة الفريدة، فلم نرَ من فرادتها إلا تسلّط الآخرين وميلهم في تملّك أفكارنا.

ملاحظة : هذا المقال من خيال كاتبه، لأننا للأسف في زمن لا يسمح لنا أن نتحدّث في الواقع والوقائع

| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) اضغط هنا

 

تسجل في النشرة اليومية عبر البريد الالكتروني