لبنان في زمن الحرب: ثقافة تصارع للبقاء بين الصمود والانقسام
لبنان في زمن الحرب: ثقافة تصارع للبقاء بين الصمود والانقسام

خاص - Saturday, November 16, 2024 2:27:00 PM

د. سارة ضاهر – رئيسة مجمع اللغة العربية في لبنان

 

لبنان بلد متنوع بثقافته وغني بتراثه، لكنه في أوقات الحروب والصراعات، يجد نفسه في صراع عميق للحفاظ على هويته وتماسكه. في هذا السياق، تبرز الثقافة اللبنانية كقوة مضادة تسعى للاستمرار رغم الظروف القاسية، وتتشابك فيها عوامل التضامن والألم والانقسام والهجرة. بينما يصارع اللبنانيون للبقاء وسط تحديات يومية قد تهدد نسيجهم الاجتماعي، تظهر معالم ثقافة متجذرة تستمد قوتها من تاريخ عريق وتجربة فريدة، لكنها تعاني من الانقسامات وتواجه خطر التمزق.

 

الثقافة الشعبية: روح المقاومة والصمود

تتجلى روح الصمود في الثقافة الشعبية التي تعبر عن تجذر اللبنانيين في أرضهم وإرادتهم للبقاء. في الأوقات العصيبة، يُظهر الشعب اللبناني تلاحمًا فريدًا، حيث يتمسك بالأغاني والأناشيد الوطنية كوسيلة للتعبير عن صمودهم في مواجهة التحديات. الأغاني التي تنتشر بين الناس تعبر عن الشجاعة والانتماء للوطن، وتغدو رمزًا للتضامن والقوة في مواجهة المآسي. رغم الألم والخوف، تبقى تلك الأغاني تردد كلمات الحب للوطن الذي يعيش في قلوبهم ويجمعهم حتى في أحلك الظروف.

يبرز هذا الجانب من الثقافة الشعبية أيضًا من خلال العادات اليومية، مثل التضامن المجتمعي وتقديم المساعدة للآخرين، حيث يقوم المواطنون بتقديم الدعم لبعضهم البعض عبر توفير المواد الغذائية والملابس والمساعدات الإنسانية، محاولين تجاوز الأزمات معًا. فاللبنانيون لديهم شعور قوي بالمسؤولية الاجتماعية، مما يجعلهم أكثر تمسكًا بأرضهم وأكثر استعدادًا للتضحية من أجلها.

 

 

الإعلام: القوة التي تجمع وتفرق

في ظل انتشار وسائل الإعلام التقليدية والجديدة، يلعب الإعلام دورًا مؤثرًا في تشكيل الوعي المجتمعي وتوجيه الرأي العام. في أوقات الحروب، يصبح الإعلام وسيلة فعالة للتعبير عن المقاومة، حيث ينقل الأحداث اليومية ويعكس هموم الشعب وتحدياته. ومع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح اللبنانيون العاديون قادرين على مشاركة قصصهم والتعبير عن مشاعرهم بشكل مباشر وسريع، مما يعزز من تواصلهم ويقوي روابطهم الاجتماعية.

لكن هذا الإعلام، رغم دوره الإيجابي، يمكن أن يكون سلاحًا ذو حدين. فهناك أطراف تستغل وسائل الإعلام لنشر الشائعات وإثارة الفتن، مستغلة تنوع الطوائف والأحزاب لتكريس الانقسامات بين أبناء الشعب الواحد. في مثل هذه الأوقات، يصبح الإعلام أداة بيد البعض للتأثير على الفئات المختلفة، مما يزيد من تعقيد المشهد الثقافي ويضعف الوحدة المجتمعية.

 

الثقافة السياسية: الانقسامات الداخلية والصراعات على النفوذ

يعتبر التنوع السياسي والطائفي جزءًا من الهوية اللبنانية، لكن هذا التنوع قد يتحول إلى تحدٍ في زمن الحروب. تتزايد الانقسامات بين الأحزاب والطوائف، ويتحول الصراع السياسي إلى صراع على النفوذ والسيطرة، مما يزيد من تعقيد الوضع ويعمق الخلافات بين أفراد المجتمع. خلال هذه الفترات، يبرز تأثير الأحزاب والطوائف في تشكيل ثقافة الانقسام، حيث تستخدم كل فئة قوتها الإعلامية والشعبية لتعزيز مصالحها، مما يضعف الوحدة الوطنية ويعزز من مخاوف التفكك.

 

الدين: حافز للتقارب وعامل للتفرقة

يشكل الدين جزءًا أساسيًا من الهوية اللبنانية، ويظهر ذلك من خلال تعدد الطوائف التي تعيش في البلاد. في أوقات الأزمات، يمكن للدين أن يكون قوة توحد المجتمع وتدعمه. حيث تعمل المؤسسات الدينية على تقديم المساعدة والدعم للمتضررين، وتجمع التبرعات للمحتاجين، مما يعزز من ثقافة التضامن والتكافل الاجتماعي. وعلى الجانب الآخر، يمكن أن يستخدم الدين كأداة للفرقة بين الطوائف، ويصبح عاملاً من عوامل تعزيز الانقسامات الاجتماعية.

هذا التناقض يظهر بوضوح خلال الأزمات، حيث تُستخدم الرموز الدينية كوسيلة لتعبئة المشاعر الوطنية من جهة، وكوسيلة للتحريض والانقسام من جهة أخرى. وهنا تكمن خطورة استغلال الدين في الصراعات السياسية، إذ يؤدي ذلك إلى تفكيك النسيج الاجتماعي.

 

الهجرة والانتماء: البحث عن حياة أفضل والتمسك بالجذور

في ظل الحروب والأزمات، يضطر الكثير من اللبنانيين للهجرة بحثًا عن حياة أفضل. هذه الهجرة تفتح أبوابًا جديدة للبنانيين حول العالم، لكنها تترك أثرًا عميقًا في الوطن، حيث يفقد لبنان جزءًا من شبابه وقواه العاملة. ومع ذلك، يبقى اللبنانيون في الشتات مرتبطين ببلدهم، يسعون للحفاظ على لغتهم وتراثهم وثقافتهم، ويعكسون إرث وطنهم في بلاد المهجر.

ختامًا، لبنان في زمن الحرب ليس مجرد ساحة صراع سياسي، بل هو مرآة تعكس صمودًا وإرادة لا تقهر. هذا الوطن الذي يعاني من الانقسامات والحروب لا يزال يتمسك بثقافة غنية ومعقدة، تتجاوز الحدود والظروف، وتجمع في طياتها مزيجًا من الألم والأمل، الفرقة والتضامن. هي قصة بلد يقاوم قسوة الظروف، يتشبث بأرضه، ويحافظ على هويته الثقافية في مواجهة العواصف.

 

 

| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) اضغط هنا

 

تسجل في النشرة اليومية عبر البريد الالكتروني