الاعلاميّ د. كريستيان أوسّي
إنفجار المرفأ الذي أزهق في لحظةٍ، الحياة في الجانب الشرقي من العاصمة، أسقط بعصفِهِ "هالة" السلطة بكل مكوّناتها السياسية والادارية والقضائية والامنية.
ما حدث كشف زيف البنيان الذي أرساه اتفاق الطائف، الذي تمكّن على امتداد ثلاثة عقود من الزمن من إنزال "الدولة" الى مستوى الشهوة السياسية، ولم يتمكّن من الإرتقاء بالسياسيين الى مستوى رجال الدولة.
عقود ثلاثة حوّلت الحكم الى "سيبة توافقية" يرضي فيها واحدهم الآخرين، لتتكرس "ترويكا" هجينة عملت على تكديس المكتسبات، بل تقديسها، لمصلحة المحاسيب على حساب "الأوادم"، فتحوّلت الادارات مرتعاً للأزلام، يُعيَّن فيها "الاتباع" بعد إسقاط هيئات الرقابة والمحاسبة، لتتحوّل المؤسسات مراكز تحاصص بين القيمين على شؤون الدولة واداراتها.
لا بل اكثر من ذلك، صار "الأمن" مصلحة حزبية، فنشأت أجهزة توالي هذا من دون ذاك، وصار لكل جهاز هويته السياسية وصار بدوره محسوباً على من يوفّر له الحماية.
وعطّلت الطائفية (نسبة الى الطائف والطوائف) الجهاز الأسمى في الدولة، وهو القضاء، فصال وجال فيه الفساد والتبعية...
كل هذا من ضمن إطار دستوري كرّسته مبادىء الجمهورية الثانية التي وافق عليها النواب ذات يوم ورسى عليها التعديل الدستوري، تعديلٌ لم يتمكّن من الحؤول دون تحويل مجلس الوزراء الى سلطة تنفيذية مطلقة يُمارسها رئيسُه على إمتداد أكثر من عشرين عاماً، بحيث كان الوزراء دمىً أو شبه دمى، وكان رئيسُ البلاد شبهاً لملكة بريطانيا، ما لم يتوفر له دعم سوريا المكلّفة تنفيذ الاتفاق، وصار مجلس النواب مرتعاً للحضور السياسي الفاعل للطائفة الثالثة...
جمهورية ثانية لم تتمكّن من الحؤول دون اغتيال رفيق الحريري، ودون قيام 7 آب، ودون سريان الفراغ الرئاسي، ودون انعقاد مؤتمر "الدوحة" الترميمي، ودون ودون ودون...
كل ذلك على حساب وطن ومواطن، فتعطّلت لغة المنطق، وسادت لغة المصلحة الخاصة، وتكرسّ منطق الفئة المسلّحة... ولم يتمكّن العهد القوي من الإبتعاد عن هذه التركيبة المترسّخة، بتسوية أولا" و بنظام تحاصص لاحقا"، فتحوّل من حيث لا يدري جزءاً منها، إذ من خلال سعيه الى استعادة الصلاحيات تحوّل فريقاً في لعبة توزيع المكاسب، يعطي هنا ليأخذ هناك ويسعى جاهداً الى تعيين المحسوبين عليه، من مريدي فريقه على حساب المعارضين، مأخوذاً بفكرة تعزيز الحضور حتى من ضمن الطبقة المسيحية...
كل هذا قاد الى أنّ أطنان الموت التي أودعت "مرفأ بيروت" بقيت هناك في العنبر المشؤوم، لأن لا جهاز أمنياً واحداً تحرك كما يلزم، ولأنَّ لا سلطة قضائية فاعلة قرّرت، ولأن لا وزير معنياً أخذ القرار المناسب، ولا سلطة مرفأية قادرة نفذّت، لا بل عمل الجميع على مراعاة وضع المحاصصة بحيث يرمي هذا على ذاك المسؤولية...حتى قضت شوارع الجميزة ومار مخايل والرميل والاشرفية التي صمدت منذ العام 1975، تحت هول ضياع المسؤوليات التي أخرت حتى مسألة تحديد المحقق العدلي في هذه الجريمة المروعة...
نعم، فقد الناس ثقتهم بالسياسيين والاداريين والأمنيين والقضاة، فقد الناس ثقتهم بالدولة، ونكاد نقول معهم:
ليت الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون يتمكّن، مدعوماً من قادة العالم، من حث القيّمين علينا، على إرساء صيغة متجددة، تعيد الى الدولة رونقها، والى اللبنانيين ثقتهم والامل، ليتحقق "طائف فرنسي" يخرجنا مما نحن فيه، يرسي مفهوم الدولةالمفتقد ويسقط واقع الدويلات القائم .
هذا هو المرتجى، و إلا فإننا أمام المزيد من المآسي و النزاعات !
|
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp)
اضغط هنا