النقيب السابق للمحامين في طرابلس، الوزير السابق رشيد درباس
استأذكم بأن استهل هذه الحلقة بكلام صار بعيداً جداً عن مجرى الاحداث، لولا أن بعض المحللين يحاولون إثبات ثقافتهم الاستراتيجية بالاستشهاد الجاهل بالتاريخ، وبالتعرض لمقامات جليلة بأسلوب يجرح الذاكرة والعاطفة معاً. من ذلك أن أحدهم سجع كالحمامة فاستعمل السجع دليلاً على علو كعبه الأدبي وقال: "إنّ لبنان لم يجد الأمان منذ عبد الناصر إلى عبد اللهيان"، وثانٍ يقول إنّ عبد الناصر قد خدع العرب وجلب الهزيمة والفشل، وآخرون يعطون لأنفسهم حق شتيمة الرجولة وهي في سكون القبور.
لن استغرق وقت البرنامج، بل أقول إنّ عبد الناصر هو الذي أرسى قاعدة أن لبنان ليس دولة مواجهة، أكد في اجتماع الخيمة ذي الرمزية الراسخة، حرصه على استقلال كل شبر من أرضنا، وكان أول قارىء للصحف اللبنانية، حيث رأى في لبنان نموذجاً لنمط العيش الراقي، وهو من عمّم مجانية التعليم، وفتح جامعاته لطلاب العرب، كما أنّ خطاباً واحداً منه جعل السفن الأميركية ترسو في المرافىء العربية وقد انفض عنها عمّال التفريغ رداً على إحجام نقابة عمال مرفأ نيويورك الصهيونية الهوى عن تفريغ الباخرة كليوباترا المصرية في عهد الرئيس أيزنهاور؛ وهو الرئيس الوحيد الذي اعترف بالهزيمة وتحمّل مسؤوليتها منفرداً واستقال من منصبه لولا عشرات الملايين الذين تظاهروا في مصر وأصقاع العرب لإرغامه على العودة، وأنه بعد الهزيمة جهّز جيشه في وقت قياسي، وأنّ أعظم العقول العسكرية العربية في ذلك الجيش عبد المنعم رياض، رئيس الأركان، استشهد على الجبهة.
كما أن ألدَّ خصومه المغفور له الملك فيصل بن عبد العزيز، قال له في مؤتمر الخرطوم، نحن معك أن نتخلّص من هذا العار.
أكتفي بهذا القدر، فالرجل الذي ما زلت أضع صورته في صدر مكتبي، مارس أخطاء كثيرة أهمها الخطأ الاستراتيجي الذي استدرجه إلى حرب 1967، ولكنه الزعيم الذي مات فقيراً، لم يورث أبناءه مالاً، ولم يجعلهم خلفاء له في القيادة، ومنزله عاد إلى الدولة فور وفاة عقيلته، وأنه منذ موته اندثرت كلمة العرب، كما أن التاريخ لم يشهد من قبل وربما لن يشهد من بعده، جنازة مليونية امتدت من جبال الأطلس إلى بحر عمان.
أعود إلى يومياتنا، فأقول إن أشهراً ستنستزف من قبل السادة المحللين، تعليقاً على فوز الأحمر على الأزرق، فيما تنتقل وصاية الحرب الإسرائيلية علينا وعلى فلسطين من الراعي الخبيث إلى الراعي الجموح، والموجة الحمراء لا تزال تجتاحنا من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، وأهل بيزنطة يختلفون الآن، عما اذا كان دونالد ترامب سيمارس حبه للبنان فوراً أم سيستأخر ذلك إلى موعد تسلمه السلطة، ريثما يكمل نتيناهو مهمته؟
استذكر محمود درويش الذي استلهم من سورة يوسف في القرآن الكريم قصيدته الشهيرة أنا يوسف يا أبي والتي لحنها وغناها مرسيل خليفة، إذ يقول:
يَا أَبِي، إِخْوَتِي لَا يُحِبُّونَنِي،
وَهُمْ طرَدُونِي مِنَ الحَقْلِ.
هُمْ سَمَّمُوا عِنَبِي يَا أَبِي. وَهُمْ حَطَّمُوا لُعَبِي يَا أَبِي
وَهُمُو أَوْقعُونِيَ فِي الجُبِّ، وَاتَّهمُوا الذِّئْبَ؛ وَالذِّئْبُ أَرْحَمُ مِنْ إِخْوَتِي..
وأنا أضيف: ليست دماؤنا من كذب، فأولاد يعقوب على ما جبلوا، يستنزفون اليوسف الليمون والزيتون والتين وجفناتِ العنب
قد أهرقوا دمنا، وأحرقوا الضفاف،
فانبرت جداول الليطاني والعاصي تترعها منذ الينابيع إلى أقصى المصب...
نهران؟
أم دهران من موتٍ... وأرواح حقب
نهران؟
أم دهران من جهل وغضب.