مازن ح. عبّود
اقنعونا انّ النكبة اتت نتيجة الاهمال حصرا، وبأنّ لا وجود لعوامل خارجية او اعتداءات او اعمال تخريبية فأقتنعنا. وذلك بالرغم من اننا جميعا نعلم بانّ نيترات الامونيوم بحد ذاته غير متفجر ونستعمله في حقولنا. استبعدت كل فرضيات المؤآمرة والتخريب. ووجهت اصابع الاتهام الى التقاعس الذي دمرنا. مما لاشك فيه بانّ هذه النكبة ستعيد تسطير تاريخ بيروت. فتبدل في ديمغرافية المناطق الاكثر تضررا وفي حضور مجموعاتها التي وجدت انفسها مدمرة بدون منازل ومؤسسات وحتى مستشفايات ودور عبادة. لكنها تشكل فرصة حقيقية لقيامنا ولاصلاح انفسنا.
البارحة، امام هول الفاجعة بكيت دما. امام هول الفاجعة انتفضت الما وغضبا. شعرت بالذنب. فانا مسؤول وكلنا مسؤولون. مسؤولون وتتفاوت درجات مسؤولياتنا. مسؤولون لانّنا نتعاطى معك يا لبنان بمنطق موظفين. موظفون نسعى الى تقاضي اجر والبحث عن القوانين للحماية. كلنا هكذا رؤساء ووزراء ونواب ومدراء ومستخدمون ومواطنون. نعم فنحن لا نتصرف كابناء لك بل كمستخدمين ليس عندك بل عند من وظفنا. نبحث كي نبعد قنبلة عنّا فنضعها في قلب البيت، حتى تصير ببساطة في نطاق اهتمامات الزوجة. فتنفجر وينفجر البيت ونطير وتطير الزوجة والأولاد. وننتظر المصائب والكوارث كي نتسلق ونكتسي صفة الديانين والقديسين والابرار. كلنا متورطون. أولست انت متورطا ايضا يا من بعت نفسك بمائة دولار في انتخابات كي تنتخب هذا او ذاك او كي تكسب حظوة او وظيفة؟
ألست انت متورطا وقد الغينا المحاسبة من القاموس لحساب الوفاء للزعيم؟
الست مسؤولا يا من توليت خدمة الاقوياء والنفاذين على حساب الحقيقة؟
كلنا مسؤولون عن كل شهيد سقط لأننا ساهمنا في جعل هذا البلد دولة ساقطة. كل القبائل والطوائف والغوغاء الذين نصبوا عليهم قلة سلموها امرهم وجعلوا من أنفسهم أرقاما في الصناديق لا تحاسب. سقطنا لما تفرفطنا ملالا وقبائلا.
سقطنا لكن ليس اليوم. سقطنا عندما سقط الكثير من القضاء. فصار تطبيق القوانين رأي وانفاذ الدستور مسألة فيها نظر. سقطنا لما صار انفاذ القوانين والعقود ورقة. فالقوي قوي بقوته. اما قوة القانون فصارت ضعفا.
سقطنا زمانا عندما انحرفنا أخلاقيا. فصرنا نتلطى في المبادئ. وصارت نماذج لا تشبه ما تنادي به تحركنا في الكثير من الأحيان وتجرنا الى موتنا المحتم.
انفجرت بيروت لأنها انفجرت منا ومن فسادنا وافسادنا. نحن أعداء أنفسنا بتهاوننا وتقاعسنا وتآمرنا واستقالتنا من مهامنا كمواطنين. استقلنا من مواطنيتنا وصرنا بغالبيتنا منتفعين. منتفعون نفتش عن راحتنا ومصلحتنا ولو على حساب البلد. فانفجرت بنا المدينة وانفجر البلد. تغاضينا عن متفجرات وكل فتش عن نصوص كي يبعد الكأس عنه فلا يذوق من مرارة اتخاذ قرار. وها نحن اليوم نفتش عن كبش لمحرقتنا من هذا الفريق دون ذاك. حتى اننا نسعى ان نجرم غير المسؤول ونزيح الضوء عن المسؤول ارضاء لنزواتنا. غريب انت يا بلدي، لاننا تغربنا عن الحق وعن محبتك.
تفصيل القوانين وفق حاجات المقتدرين صار حرفة يكرم من يتقنها. تبا لنا لأننا انتجنا هذه القلة القليلة التي تمتلك كل شيء حتى قراراتنا ومصائرنا واحلامنا وهواجسنا، والتي تعرف كيفية التحكم بنا اكثر منّا.
اغفروا لنا يا سيداتي وسادتي الشهداء لأنكم لم تموتوا ذودا عن الوطن كما اشتهيتم بل نتيجة هذه العقلية المميتة. متم نتيجة عقلية الموظف الذي يسعى لرفع المسؤولية ولو على حساب البلد مخافة ان يقلق او يزعج او يخطئ، فيعاقب. متم نتيجة نقص في الرجال الذين يضعون الحق فوق انفسهم وفوق النصوص عند الضرورة. رجائي ان تلقنوننا جميعا دروسا كي نتغيّر. فيتغيّر البلد ولا نعود عبيدا لحاجاتنا ونهمنا الذي لا ينتهي بل أحرارا.
من قال بانّ الانهيار يرتبط حصرا بعوامل خارجية وضغوط؟
انه غير متحرر عن ثقافة وجنون الشعوب يا جماعة.
عفوك كينيس ليس البشر وحدات إنتاجية لزيادة الربحية ولو انّ الكثيرين اختاروا ذلك. عفوك كينيس لانّ خصوصيات الشعوب تؤثر على العجلة الاقتصادية ومصائرها وازماتها وتفجر الأوطان. عفوك كينيس لانّ الاقتصاد لا يقترن فقط بالعلوم الجامدة كالحساب والفيزياء بل بالعقلية التي هي الازمة والكارثة والانفجار.
اكلاف تفاعلنا الاجتماعي هي المتغيّر، وازدياد هذه الاكلاف هي الازمة.
يا شهداء بلدي ليس أنتم من سقطتم بل نحن.
هذه الطبقة التي نلعن هي ابنة امثلتنا الشعبية. فاليد التي لا نستطيع عضها لطالما قبلناها. ووضعنا أنفسنا ومصالحنا وراحتنا فوق المدينة فتفجرت المدينة ونحن تهاوينا.
كلا ليس العصفور الذي باليد أفضل من عشرة على الشجرة. فعصفور نكبتنا دمر ثرواتنا وميزاتنا التفاضلية وابناءنا واهلنا، وفجّر ام العواصم. والشاطر الذي بشطارتو اكل كل شيء مال التاجر والبلد، حتى انه اكل كل ما تبقى من طعامه وفجّر البلد. تعدّت قيمة الاكراميات الصفقات فصار الدولار أغلى من كثيرين.
ومددنا بساطنا على قدر شطارتنا فصار البلد معرض سجاد، وكل على بضاعته ينادي. عقليتنا هي الفساد. ونحن من قتلكم يا شهداء الواجب ونحن فجرناك يا بيروت. كفانا هروبا من تحمل المسؤولية.
احلم بان ابني جدار الفصل الذي تلكم عنه "روبرت سكيدلسكيما" بين الموروثات والبلد والاقتصاد. احلم ان نتعلم من كبوتنا والمنا. وان لم نتعلم منهما فعلى الدنيا السلام. نتعلم والا سيبقى بعضنا يطفو في اليخوت الفاخرة بينما يغرق غالبيتنا بين الركام كما قال يوما الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس.