في ظل الحرب الدائرة في لبنان منذ أكثر من عام والتي بلغت ذروتها في الآونة الأخيرة، لا يختلف اثنان على أن إسرائيل دولة محتلة وعلى أن مبدأ تحرير الأرض مكرس في اتفاق الطائف. لكن هذه الحرب التي فرضت على لبنان عكست انقساماً داخلياً يحلو للبعض توصيفه على أنه بين "الوطنيين" واللا وطنيين، فيما هو في عمقه انقسام بين من يؤيد حزب الله كمقاومة للاحتلال للدفاع عن الأراضي اللبنانية حصراً، وبين من يريد مساندة غزة الى حد الشهادة على طريق القدس.
وبما أن الأزمات السياسية الكبرى تصل الى خواتيمها إما عبر النزاع المسلح أو عبر الحلول الدبلوماسية، فلا بد من التوقف عند دور الدبلوماسية اللبنانية منذ بدء معركة الاسناد لإبداء بعض الملاحظات:
قبل الغوص في عمق الموضوع السياسي، لا بد من الإشادة بدور الدبلوماسية اللبنانية التي تمكنت من الحفاظ على ترابطها على الرغم من الظروف الصعبة التي يمر بها لبنان ومن تحلل الدولة ومن ضعف السلطة المركزية. فبفعل اجتهاد الدبلوماسيين ومبادراتهم الفردية تمكنوا من حشد المساعدات الإنسانية من الدول المضيفة وفي الوقت نفسه كانوا السباقين في ايصال صوت لبنان الرسمي الى المحافل الدولية فيما كان غائبا في الداخل.
هذا في الشكل أما في خلفيات النهج السياسي المعتمد من قبل الدبلوماسية اللبنانية منذ بدء معركة إسناد غزة، فلا بد من التأكيد على أن مصلحة لبنان العليا تقتضي بحدها الأدنى الالتزام بالدستور اللبناني وباتفاق الطائف وبالقرارات الدولية التي وافق عليها لبنان وبالبيان الوزاري (على علّاته)، والتي لم تشر بأي شكل من الأشكال إلى حق أي فصيل لبناني بالقيام بأي عمل مسلح بهدف تحرير أراض غير لبنانية.
في ظل هذه المشهدية المعقدة تظهر إشكالية جوهرية بين صورة حزب الله اللبناني من جهة والذي يحظى بقاعدة شعبية كبيرة والممثل في مجلسي النواب والوزراء كما الذي صاغ تحالفات داخلية متينة مكنته من إضفاء صبغة وطنية على بعده الطائفي، وبين المقاومة الإسلامية المسلحة من جهة أخرى والتي ترتبط عقائديا ولوجستياً وتمويلياً بالجمهورية الإسلامية في إيران والتي تلتزم بمصلحة طهران العليا وتتحرك وفق سياستها الخارجية.
هذه المعضلة وضعت غالبية المواطنين اللبنانيين في وضعية انفصام بين رغبتهم بالدفاع عن أرضهم في وجه العدوان الاسرائيلي وبين رفضهم لوصاية إيرانية مقنّعة تستعمل لبنان كورقة ضغط في سياساتها الاستراتيجية.
وبما أن الدبلوماسيين هم جزء من هذا المجتمع فمن الطبيعي أن تنعكس هذه المشهدية عليهم مما أثّر على آدائهم الشخصي. فجزء من هؤلاء يلتزم مصلحة لبنان العليا والدستور اللبناني محافظاً على مهنيّته وانضباطه الوظيفي وسلوكه الوطني، من دون إقحام قناعاته وعواطفه الشخصية التي قد لا تتماهى في كثير من الأحيان مع التوجهات السياسية للبنان الرسمي. أما الجزء الآخر والذي زاد جسارة منذ التسعينيات خلال عهد الوصاية السورية ومن ثم تمدّد النفوذ الإيراني عبر حزب الله، فباتت تسوّل له نفسه تقييم من هو وطني ومن هو العميل، من هو الشجاع ومن هو الجبان، من هون المخلِص ومن هو الخائن، ومن يبدّي راحته الشخصية على "النضال في سبيل القضايا الكبرى".
هذه الفئة الثانية استمدّت استكبارها من فائض القوة الذي طبع حقبة ما بعد التسعينيات في لبنان وتعاقب الوصايات الأجنبية مما عزّز شعوراً عند هؤلاء بـأنهم معيار الصواب وبوصلة الوطنية وأصبحوا من حيث يدرون أولا يدرون "مطاوعين"، بحيث يأمرون بالمعروف وهو وجوب تأييد حرب الإسناد وينهون عن المنكر أي رفض الرأي الآخر الذي يتعارض مع أيديولوجياتهم.
إلى أن بدأت معركة طوفان الأقصى، فتحرّر هؤلاء من "عقالهم الوظيفي" ومصلحة لبنان العليا واعتبروا أن هذه الرقعة الجغرافية الضيقة لا ترقى إلى مستوى أفكارهم العابرة للحدود والمتحررة من الجنسيات ومن الفكر الضيق المحدود الذي لا يزال مؤمناً بنهائية الأوطان. فبات هؤلاء قنابل فكرية مضغوطة بفعل ضيق الوطن وحجمه الصغير الذي لا يتسع لأفكارهم الضخمة.
المفارقة أنه عندما كان لبنان الرسمي يتماهى مع أفكارهم كانوا يغضون الطرف عنه ويلاحقون بعض أصوات النشاز إن وجدت. أما وقد تمادى حزب الله باستخدام القوة ليتخطّى استعمالها تغيير الواقع السياسي الداخلي للتأثير في معادلات وتوازنات إقليمية ودولية انقلب السحر على الساحر، فحاول لبنان الرسمي أن يجد بالقرارات الدولية خشبة خلاص وهذا ما جعل بعض أصحاب الأفكار الشمولية يعانون "هيستيريا وطنية". هيستيريا جعلتهم يتبجحون بأفكارهم التي مرّ عليها غبار زمن الستينيات والسبعينيات التي تتراوح بين "ماركسية طائفية" و"مقاومة إسلامية يساريّة". من دون أن ننسى مفاهيمهم للعروبة المتأرجحة بين حداثة التكامل الاقتصادي ورجعية الإسلام السياسي.
بأي حال ومع تفهمنا لسيكولوجية هؤلاء المأزومة واستعمالهم لوسائل التواصل الاجتماعي للتعبير عن آراء خاصة وأفكار شخصية تخالف السلوك الوظيفي، ليس لنا إلا أن ننتظر استعادة الدولة اللبنانية القوية بمؤسساتها الفاعلة لتعيد فرض الانتظام العام ولتوقظ هذا البعض من سبات فاق عمره الخمسين عاماً ولتخرجه من فقاعاته الفكرية ليدرك أن لبنان ال 2024 ليس كما قبله.