مبارك حسني - الشرق
لم يكن مستغرباً أن ترفض الكاتبة الكورية الجنوبية هان كانج، الحائزة على جائزة نوبل للأدب 2024، الاحتفال بالفوز أو التحدث في أي مؤتمر صحفي، "وذلك بسبب الأحداث المأساوية التي يشهدها العالم"، بحسب صحيفة "كوريا تايمز".
وقالت لأبيها الروائي الشهير هان سونغ وون، البالغ من العمر 85 عاماً: "لم تمنحني الأكاديمية السويدية هذه الجائزة للاستمتاع بها، بل كي أحافظ على صفاء ذهني".
تحفر حكايات الكاتبة في حالات القلق الذي يواجه أعماق الإنسان، خصوصاً النساء، فالألم مرتبط أشدّ الارتباط بشخصياتها، ويتعالق الموت مع الحياة، والكوابيس مع الجمال والآمال، والجنون مع الصحة العقلية.
نشأت الكاتبة داخل بيتٍ مليء بالكتب، فوالدها هو الكاتب المشهور هانغ سونغ وون، ما جعلها تقول: "إن الكتب هي مخلوقات نصف حيّة، تتكاثر باستمرار وتُوسّع حدودها" (لوفيغارو 10/10/2024).
تبدع كانج في الشعر والقصة والرواية، وتؤدي مقطوعات غنائية، يمكن الاستماع إليها بصوتها الشجي عبر موقعها على الإنترنت.
الكتاب الأخير
وعن أفضل كتبها قالت في مقابلة مع لجنة الجائزة: "أعتقد أن كل كاتب يحب كتابه الأخير. لذا فإن كتابي الأخير هو "نحن لا نفترق" أو "أنا لا أقدم وداعاً"، ثم يأتي "الكتاب الأبيض"، وهو كتاب شخصي جداً، لأنه عبارة سيرة ذاتية تماماً. وهناك "النباتية"، الذي استغرقتني كتابته ثلاث سنوات، كانت صعبة بالنسبة لي لأسباب عدّة".
كان من المؤكد بأن لجنة نوبل للأدب، ستكافئ كاتباً من قارّة غير أوروبا وأميركا الشمالية، وأنها ستختار لغةً أخرى غير تلك المتداولة بكثرة منذ بداية الجائزة عام 1901، أي فرنسية وإنجليزية وإسبانية.
كما كان جلياً، أنها ستخصّص جائزتها هذا العام لامرأة، وذلك في سعي لتحقيق المناصفة، وإن كان ذلك أثار النقد، على اعتبار أن جنس المبدع ليس هو من يحدّد قيمة العمل الأدبي.
عموماً فإن هان كانج، ليست اسماً مغموراً في مشهد الأدب العالمي، فقد سبق أن نالت عدّة جوائز، منها جائزة الأدب الكبرى في بلدها كوريا الجنوبية، وجائزة "ميديسيس" للكتاب الأجنبي في فرنسا (2023) عن روايتها "يستحيل أن أقول وداعاً"، وجائزة "المان بوكر" البريطانية عن روايتها "النباتية" (2016). كما تُرجمت رواياتها إلى لغاتٍ عدّة، من بينها العربية.
ذروة القلق
تبدو موضوعاتها للوهلة الأولى عادية، ولا تثير الانتباه، إلى أن تتصاعد وتصل إلى ذروة القلق، وتقلب الأحداث رأساً على عقب. وهي تبرهن على ذلك بقدرة إبداعية عالية في روايتها الأشهر "النباتية" (دار التنوير، ترجمة محمود عبد الغفار، 2018).
تحكي في "النباتية" قصّة رجل يرى نفسه من دون مزايا، فيقرّر الزواج من امرأةٍ خنوع لها مزايا أقل منه، حتى لا يشعر بالضغط أو الإهانة أو عدم الأهمية.
بعد خمس سنوات من الزواج، رأت الزوجة حُلماً، تبدو فيه ملطخةً بحمرة الدم إثر تناول اللحوم. ما أثار توترها، وعقّد حياتها وحياته، وكل من يدور في محيطها. وأطلق هذا الأمر العنان لآلام وأحزان غير معهودة، وعلاقات بين أفراد عائلتها قاسية.
كتبت الإندبندنت عن الرواية: "إنها واحدة من أكثر الروايات إثارةً للدهشة، تكشف فيها الكاتبة الأثر الساحق للطبيعة والجنس والفن في مجتمع من المفترض أن يكون أناسه مهذبين جداً، النساء هن من يُقتلن فيه بسبب جرأتهن على تأسيس هويتهن الخاصة، كما أن الضغط القوي للتقاليد الكورية هو الذي يقتلهن"..
يمزج العمل الروائي بين تعابير تترجم عنف الاتصال الجسدي الذي تتعرّض له النساء في الحكاية، وكلمات تصف عمليات تصوير ورود وأشجار بألوان مختلفة على هذه الأجساد.
كما يتميّز بقدرته على إثارة العواطف الأكثر حدّة، بل وحتى الفزع من حيث موضوعه المكتوب بجرأة بالغة، تملأ القارئ بالكثير من الدهشة بخصوص عوالم حميمية وخفية.
ثلج وببغاء وحيد وإبادة
يحضر الألم في رواية "يستحيل أن أقول وداعاً"، وينتقل من المستوى الفردي ليسرد قصّة امرأة، جرحت بالمنشار الآلي اثنين من أصابعها، أثناء عملها في ورشتها، ولأنها مضطرة للذهاب إلى العاصمة سول كي تعالج، أوصت صديقة لها بالاعتناء ببغائها الأبيض الذي تركته وحيداً.
تسافر الصديقة إلى حيث تقيم صديقتها، في جزيرة معروفة بعواصف الثلج القوية والجليد، الذي يؤثر في طباع وسلوكات ساكنيها، فتجد نفسها في خضم تداعيات إبادة ثلاثين ألف شخص في كوريا الجنوبية، من قِبل الجيش بتهمة توجهاتهم اليسارية، وذلك في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي
إنها رواية ضد النسيان، ومحاولة ناجعة لاستعادة ذكرى من قضوا موتاً من دون ذنب. وكما في الرواية السابقة تلعب الأحلام دوراً كبيراً، وفيها يتم استحضار الأموات.
كتبت صحيفة "لوموند" الفرنسية، "بأن قوّة هذه الرواية العظيمة تكمن في أنها تخلق منذ الصفحات الأولى تواصلاً مستمراً بين الحلم والواقع، مساحة ذهنية فريدة وحقيقية. بينما يستمر الثلج في التساقط، خلف الجفون وأمام العينين". (30/08/2023)
أبيض الحداد، أبيض الكتابة
في كتابها "كتاب أبيض" (دار التنوير، ترجمة محمد نجيب)، مجموعة من الحكايات القصيرة الحميمية، كتبتها بعد أن علمت من أمهان بأن أختاً لها ماتت بعد ولادتها مباشرة.
الأصل هنا هو "بياض" الجنين الذي يمتزج مع "بياض" لباس الحداد. منه يبدأ كل شيء. وعلى وقعه ترحل الكاتبة إلى مدينة بعيدة.
تقول المؤلفة: "في الربيع، عندما قررت الكتابة عن الأشياء البيضاء، أول شيء فعلته، كان كتابة قائمة: قماط. ثوب طفل وليد. ملح. ثلج. قمر. شجرة المنغوليا. أرز. موج أبيض. طائر أبيض. "الضحكة البيضاء". ورقة بيضاء. شعر أبيض. كلب أبيض. كفن".
كتابة مبنية على ألم الفقد، وعلى احتمال حياةٍ أخرى لو بقيت الأخت على قيد الحياة. كما لو أن البطلة/ الكاتبة امتلأت بياضاً، وهو ما لاحقها طويلاً، فكانت تراه في الطبيعة والأشياء، وفي تحوّلات الإنسان، تقول: "ولدتُ مكان ذلك الموت".
تاريخ كوريا السياسي
من خلال هذه الروايات، وروايات أخرى لا تقلّ أهمية وأثراً، على غرار "درس اليونانية" و"ذاك الذي سيأتي" و"لن نفترق أبدا"، تُمكِّن الكاتبة القارئ من الغوص في التاريخ السياسي لكوريا الجنوبية المعاصرة.
أولاً، كتوثيقٍ وتعريف بأحداثه الأساسية، مثل التظاهرة الطلابية سنة 1980، التي واجهتها السلطة بالقمع، وهي التي شكّلت الوجه الحالي لكوريا الجنوبية، وكانت الكاتبة خصّصت لها رواية "أفعال بشرية" (دار التنوير، ترجمة محمد نجيب).
وثانياً، كإطارٍ خاص يسمح بمقاربة الابتلاءات التي تصيب الإنسان بما هو إنسان، حياتياً ووجودياً. تحضر كوريا في مرآة العالم، وفي نفس الآن تطفر المتعة القرائية، وهي تسبُر القدر الإنساني المليء بالتناقضات المقلقة.
بهذا الصدد قال ناشر كتبها في بريطانيا بأن "في كتابتها جمال ووضوح استثنائيين، حيث تواجه كانج السؤال المؤلم حول معنى أن تكون إنساناً، وأن تنتمي إلى جنس قادرٍ على القيام بأعمالٍ وحشية، وأعمال كلها حب في آن واحد. هي ترى وتفكّر وتشعر، كما لم يفعل أي كاتب آخر من قبل". (الغارديان، 10/10/2024).