النقيب السابق للمحامين في طرابلس، الوزير السابق رشيد درباس
يقول العلّامة المرحوم الدكتور علي شلق: إنّ الشعر الجيد يقدّم نفسه بجودته، فهو لا يحتاج إلى معرّفين ومروّجين، وكذلك القرارات القضائية الرصينة، لأنها بغنى عن الترويج الإعلامي والظهور التلفزيوني، وفقاً لما فعله مدعي عام التمييز بشأن حاكم مصرف لبنان السابق، إذ قرر توقيفه بعد استجوابه ثم أحال الأوراق إلى النيابة العامة المالية حسب الاختصاص دون أن يظهر أو يتكلم، أو ينتفخ عجباً، بل ترك لإجراءاته أن تتحدث عن نفسها، تذكيراً لمن لا يتذكر، بأن الاستجواب له قواعد وأصول وحقوق للمستجوب المدعى عليه، كما له سريته ورصانته البعيدة عن الشعبوية والتشهير.
أنا لا أتوقف عند القضية بحد ذاتها، فهي ما زالت رهن التحقيقات السرية، ولا ينبغي بالتالي لأي كان، ولو كان من مدعي العرافة القانونية، أن يدلي بدلوه حيالها أمام الشاشات، ولكنني أعوّل كثيراً على موقف أعطى إشارة مضيئة بأن قاضياً واحداً أو أكثر، يستطيع، بالتزامه موجب التحفظ، والرزانة والحياد، والفهم القانوني، أن يجعل من سلطته، مهما كانت محدودة أو ضيقة، محط مهابة واحترام، وبارقة أمل بأن القضاء يستطيع استعادة نفسه، إذا ما أزيلت العراقيل من وجهه، وطهر صفوفه من أشباه الأولياء والأدعياء، ومحبي النجومية والشهرة، أو ممن سقطوا من ثقوب الغربال.
أنا محام قديم وممارس حتى الآن، وهذا يعني أنّ تجربتي المهنية مرت بتقلبات متعددة بسبب الحرب الأهلية، فقبلها، كان القاضي ملزماً بالسكن في إطار مركزه، وكان منكباً كلياً على ملفاته، كما كان العدد كافياً للقول بان العدالة تأخذ مجراها بسلاسة ويسر. تغيرت أمور كثيرة بعد الحرب، وتبدلت وجوه، وغاب عنا من غاب، بالوفاة أو بالتقاعد، ولكن ذاكرتي لم يخبُ فيها نجم يوسف جبران وطارق زيادة ومراد عازوري وفيليب خير الله وجوزيف غمرون ونديم عبود وهاشم الحسن وميشال تركية وسعيد عدرة وديب درويش ووجيه علوية وحسن قواس وسواهم ممن مثلت أمامهم وترافعت وتعلّمت، رحمهم الله جميعاً.
كما لا أنسى الرؤساء الأجلّاء المتقاعدين الذين إذا ما صادفتهم أو اجتمعت بهم، أحسست برهبة الأيام الخوالي، حيث كان المحامي يرى فيهم سدنة الهيكل، أصحاب الوقار والرحمة، أطال الله أعمارهم.
وبحسب خبرتي، فإنني لا أطلب من الجسم القضائي أن يعيد استنساخ نفسه على صورة السلف الصالح، لأن مياهاً كثيرة جرت من تحت الجسور، خاصة وأن المرفق القضائي قد أهملته الدولة ردحاً طويلاً، الأمر الذي أصابه بكسور وجروح وكدمات، يمكن أن تعالج فيما لو وضعت السلطة خطة عملية حصيفة لتحديث هذا المرفق وإعادة الرونق لحديقة العدالة، بعد ريها وتشذيبها وإزالة الأعشاب الضارة من حواشيها.
لكن ما يهمني أن ألفت النظر إليه، أن القاضي، الذي يشكو من من انقطاع الكهرباء، وفقدان أوراق الهامش، وتفاهة الراتب، وقلة المساعدين القضائيين، يستطيع إثبات وجوده، باستعمال طاقته الكهربائية الذاتية التي تستولد من إحساسه بالعدالة، وباهمية منصبه، وخطورة القلم الذي ينطق باسم الشعب اللبناني.
إنني أخالف معظم الصحف، والمعلقين القضائيين في تحليلاتهم وتفسيراتهم، ومعلوماتهم غير الموثقة، لجهة قرار القاضي جمال الحجار، ذلك أنني من معرفتي به من قبل ومن بعد، وجدته رجلاً عادياً، متعمقاً في العلوم القانونية مع تواضع علمي واجتماعي، لا يحسب للربح والخسارة، لأن المعيار عنده موافقة القرار للمعطيات.
ولذلك فإنني على ثقة بأنه لم يتهيب، ولم يتحسب، ولم ينتظر جزاء...
هكذا هو القاضي، رجل سوي من الناس، احرز معرفة ومارس صدقاً، وكتب حقاً.