تصعيد تنفيسي ولا حرباً شاملة
تصعيد تنفيسي ولا حرباً شاملة

أخبار البلد - Wednesday, July 31, 2024 6:45:00 AM


د. حسن محمود قبيسي-اللواء

في أيار/ مايو 1799، وأثناء حصاره عكا، دغدغ نابليون بونابرت مشاعر اليهود بإقامة دولة لهم في فلسطين، وعجز عن ذلك، فكانت حافزاً لهم للتفكير بالموضوع. وبعد ما يقارب القرن كانت الخطوة المفصلية في مؤتمر بال الصهيوني المنعقد بزعامة تيودور هرتزل في مدينة بازل بسويسرا يوم 29 آب/ أغسطس 1897، بعد شعوره بالإحباط بسبب عدم حماس أغنياء اليهود بالمساعدة في تمويل مشروعه بالعمل على إقامة وطن قومي لليهود ويكون إما في فلسطين، أو الأرجنتين، أو أوغندا، والذي ضم كل الجاليات اليهودية، بهدف العمل على تنفيذ هذا المشروع، وكان الأساس في إنشاء ما يعرف بـ«برنامج بازل».
شكّل البرنامج نقطة البدء بالمشروع الصهيوني لا اليهودي، مسقطاً كل الادّعاءات الحاخامية، ومن أهم نتائجه، إقامة المنظمة الصهيونية العالمية لتنفيذ البرنامج الصهيوني الذي حسم أن «هدف الصهيونية هو إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين يضمنه القانون العام»، وهو بذلك أسقط الذريعة والأكاذيب التلمودية عن وعد حاخّامي المنفى العراقي الذي نسبوه إلى إلههم يهوه، بالوسائل التالية:
• تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين.
• تنظيم اليهود وربطهم بالحركة الصهيونية.
- اتخاذ السبل والتدابير للحصول على تأييد دول العالم للهدف الصهيوني (إعطاءه شرعية دولية).
- تشكيل المنظمة الصهيونية العالمية بقيادة تيودور هرتزل.
- تشكيل الجهاز التنفيذي «الوكالة اليهودية» لتنفيذ قرارات المؤتمر؛ ومهمتها جمع الأموال في صندوق قومي لشراء الأراضي وإرسال مهاجرين يهود لإقامة مستعمرات في فلسطين.
وبذلك شكّل البرنامج السياسي والحركي والمخططات الديموغرافية والهجرة والعسكرية والدبلوماسية.
كان ذلك في زمن الانهيار المتسارع للسلطنة العثمانية والتعاطي معها على أنها «رجل أوروبا المريض»، وبالتالي العمل على اقتطاع أجزاء منها وتقاسمها ومحاولة الصهاينة شراء موافقة السلطان عبد الحميد على إقامتهم في القدس، ولأنه رفض عرضهم، كان السلطان أول ضحايا برنامج «بازل»؛ بوصول يهود الدونمة وحزبهم «الاتحاد والترقي» إلى حكم بقايا السلطنة، في وقت تتعالى دقات طبول الحرب العالمية الأولى.
في المقابل كان شريف مكة حسين بن علي يسعى لإقامة مملكة هاشمية على جزء من الوطن العربي. العرب كلّ يغنّي على ليلاه، والمخطط الصهيوني يُنفذ في أدق تفاصيله.
وكانت اتفاقيات سايكس - بيكو ومؤتمر سان ريمو لتقاسم النفوذ والمصالح بين الدول الكبرى.
أمسكت بريطانيا بخيوط اللعبة، وعدت الشريف وما وفت. وأصدرت «وعد بلفور»، وهو كناية عن الرسالة التي بعث بها وزير الخارجية البريطانية آرثر بلفور عام 1917 إلى اللورد ليونيل روتشيلد أحد زعماء الحركة الصهيونية في تلك الفترة والتي عرفت فيما بعد باسم «وعد بلفور»، في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 1917 أول خطوة يتخذها الغرب لإقامة كيان لليهود على تراب فلسطين. وقد قطعت فيها الحكومة البريطانية تعهدا بإقامة دولة لليهود في فلسطين: «إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين [وكأن اليهود هم الأكثرية وأهل فلسطين وافدون]، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى». ووفّت.
التلموديون واليهود عامة يستسيغون اللجوء إلى الأسهل والأقل كلفة مادية والأقل خسائر بشرية، ولا يلتفتون إلى ما يروّجونه على أنه حقوق لهم إلّا بمقدار ما يحقق مصالحهم وأهدافهم، بصرف النظر عن إخلاقية الأساليب فـ« الغاية عندهم تبرر الوسيلة». العدو الصهيوني ليس بحاجة إلى ذرائع، ولا إلى إظهار حقه في ارتكاب ما يرتكب، ولا يتمسّك بأي مبادئ ولا يراعي أي قيم إنسانية أو مواثيق دولية.
والغاية اليوم غايتان: غاية خاصة، ولها الأولية وهي محرك نتنياهو، مواقف وممارسة، ودوافع كل إجرامه ومسببات خسّته: البقاء في منصبه بعيداً عن المحاسبة والعقوبات، وإنقاذه من العدالة الدولية.
ويأتي في المقام الثاني: إطلاق سراح الأحياء من الأسرى والمحتجزين وتسلّم جثث ضحايا النيران الصديقة. وما يحاولون اليوم بتسويق ما ارتكبوه في «مجدل شمس» قصداً أو خطأ تقنياً لصرف النظر على عظيم جرائمهم على أنه الكارثة التي ما بعدها كارثة، والتنصّل من استمرار التفاوض لوقف طويل الأمد للنيران. ويهدّدون بالويل والثبور وعظائم الأمور، بجيش منهك بعد عشرة شهور من العدوان؛ نقلت المعارك إلى فلسطين المحتلة وهجرت سكان شمال فلسطين الصهاينة، وتركت دماراً وقتلى وجرحى ومرضى نفسيين وخسائر في العتاد والأسلحة. وتركت مواقع العدو الصهيوني مكشوفة وعمياء. وأعادت نصف مليون يهودي إلى مساقط رؤوسهم، وبانت فعالية الانقسامات الداخلية، وعطّلت الملاحة الدولية (من وإلى فلسطين المحتلة) في باب المندب والبحر الأحمر وأفلست ميناء إيلات، وتفاقمت الخلافات الأميركية - الصهيونية، وأحدثت انقلاباً في الرأي العام الشعبي العالمي...
هربوا من بلدانهم تجنّباً لانتقامات الأوروبيين منهم لمذابحهم ضد أطفال مواطنيهم الأوروبيين (فطيرة الفصح بدم أطفال مسيحيين من أهل أتقياء)، ويظهر أن عندهم عقد من الأطفال. ما ارتكبوه بأطفال فلسطين ولبنان و«مجدل شمس» هو استكمال لما ارتكبوه ضد أطفال أوروبا المسيحيين. عملوا وفق الحلقة الأضعف لا الحقوق ولا المبادئ، فبدلاً من الامتنان من العرب والمسلمين لحمايتهم في الأندلس، هربوا في منتصف القرن العشرين ليقيموا دولة في فلسطين، كون العرب كانوا الحلقة الأضعف، وجاءهم (الصهاينة) الدعم الخارجي قيمة مضافة فتحققت المصالح المشتركة بينهم وبين الاستعمار والأمبريالية.
في حال العرب بعد نكبة 1948 آمنوا مع جمال عبد الناصر أن «الحق بغير القوة حق ضائع»، وبعد انتكاسة 1967 أن «ما أُخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة»، وبعد اجتياح لبنان 1982 صرخوا: «هيهات منّا الذلّة».
وبعد حرب الاستنزاف المصرية ضد المحتل الصهيوني و انتصارات تشرين العسكرية وصمود المقاومين اللبنانيين وجهادهم الذي أجبر العدو الصهيوني على الانسحاب المذلّ عام 2000، وبعد بطولات المجاهدين والمناضلين 2006؛ تحرك العالم في عدة مبادرات، فما لم تنزل ضربات موجعة بالكيان الصهيوني لا يهتم أحد.
كل ما يروّج الآن لا يتعدّى حدود الحرب النفسية، فالعدو الصهيوني أجبن وأعجز عن خوض حرب شاملة ضد لبنان، وتصعيده وتهديداته بالانتقام سيجرّانه إلى تصعيد نوعي أكثر منه عددي. رغم أن مصالحه ومصالح الولايات المتحدة مرهونة بالتهدئة، وبقائه هنا مهما طال فإلى زوال، فما من أجنبي غزا بلادنا إلّا أُجبر على الانسحاب.
إن شعباً يرى أن كرامته من الله الشهادة؛ لن ترهبه الحرب النفسية، ولن توهن عزيمته أبواق ضالة مضللة.

 

| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) اضغط هنا

 

تسجل في النشرة اليومية عبر البريد الالكتروني