سيناريوهات قديمة متجددة: أحفاد هتلر وموسوليني في طريقهم إلى حكم أوروبا من جديد
سيناريوهات قديمة متجددة: أحفاد هتلر وموسوليني في طريقهم إلى حكم أوروبا من جديد

خاص - Tuesday, June 25, 2024 2:28:00 PM

يقال إن التاريخ يكرر نفسه، وما علينا سوى مراقبة ما تشهده القارة العجوز حالياً، ومقارنته بما كانت تشهده قبل نحو قرن لنتأكد من صدق تلك المقولة. سيطر الفكر الفاشي والنازي على أوروبا من قبل، والنتيجة كانت إراقة دماء الملايين، وتدمير أوروبا بشكل شبه كامل، ومعها كثير من دول باقي القارات.

إنها الحرب العالمية الثانية، التي امتدت بين عامي 1939 و1945، وشهدت إلقاء الولايات المتحدة الأميركية قنبلتين ذريتين على نغازاكي وهيروشيما لإخضاع اليابان وإجبارها على الاستسلام، بعد أن كانت أوروبا قد دمرت بالكامل تقريباً.

ومن أنقاض ذلك الدمار، نهضت أوروبا ونفضت عنها غبار النازية والفاشية وبدأت رحلة التصالح مع ذاتها ومع العالم، ودفنت الأفكار النازية والفاشية لتنطلق الأحزاب المؤمنة بقيم الديمقراطية وتقبّل الآخر والتعايش مع جميع الثقافات والديانات والأعراق، في رحلة إعادة الإعمار والتقدم العلمي من أجل الرفاهية والمدنية والحضارة.

وهذه الأفعال النبيلة والأفكار والأحلام العابرة للحدود، بدت كما لو أنها تكفير الأوروبيين عما اقترفوه بحق أنفسهم أولًا والعالم ثانيًا بانسياقهم وراء زعماء عنصريين مثل أدولف هيتلر وبينيتو موسوليني. لكن تلك الأحلام النبيلة لم تستمر طويلاً، ففي مطلع ثمانينيات القرن الماضي عادت الأحزاب الفاشية والنازية لتطل برأسها مرة أخرى، ولكن من دون أن تجد الكثير من الآذان الصاغية لهذه الأفكار التي كانت تنبذها المجتمعات الأوروبية وقتذاك نظرًا للنزيف الذي أحدثته لتلك المجتمعات التي كانت تسعى حينها إلى دفن الأيديولوجيات المتطرّفة لمحو آثارها والحرص على عدم انتقالها للأجيال القادمة. إلّا أن تلك الأحزاب اليمينية المتطرفة، اكتسبت زخماً كبيراً وحققت صعوداً لافتًا خلال السنوات الماضية، سيما منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008، ليعود "أحفاد" هتلر وموسوليني إلى الظهور بقوة في المشهد الأوروبي، خصوصًا في انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة.

التمايز بين سياسات بروكسيل والمخاوف من "الغزو"

تعتبر انتخابات البرلمان الأوروبي التي تجري كل 5 سنوات ثاني أكبر اقتراع في العالم بعد انتخابات الهند، إذ تستقطب أكثر من 350 مليون مواطن أوروبي للمشاركة في عملية اختيار 720 عضواً يمثلونهم في أعلى هيئة تشريعية بالاتحاد الأوروبي.

وقد أدلى المواطنون الأوروبيون بأصواتهم في انتخابات البرلمان الأوروبي التي أبرزت نتائجها تحقيق اليمين المتطرف تقدمًا ملحوظًا، حيث أحدث هذا التقدم ارتدادات كبيرة في فرنسا، حملت الرئيس إيمانويل ماكرون على حل البرلمان الفرنسي والدعوة للانتخابات إثر هزيمة حزبه أمام "التجمع الوطني" اليميني المتطرف بقيادة جوردان بارديلا.

هذا وهيمنت المخاوف الداخلية على توجهات الناخبين على حساب سياسات بروكسل، خاصة أن معظم مواطني الكتلة ربما لا يفهمون أو لا يهتمون بتصويت البرلمان الأوروبي، بينما تتركز اهتماماتهم على "الخطر الروسي" والأمن الداخلي.

وفي دول مثل فرنسا وألمانيا وإسبانيا، كانت الانتخابات بمثابة فرصة لتقييم أداء الحزب الحاكم، بينما في دول أخرى من شرقي القارة، التصويت كان مدفوعاً بشكل أكبر بالمواقف المتعلقة بالسياسيين الوطنيين، وليس بشخصيات أوروبية مثل رئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين، التي قد تكون اسماً كبيراً في بروكسل، ولكن من غير المرجح حضورها في ذهن الناخبين في هذا الجزء من أوروبا، وفق ما أورده تقرير لمجلة "بوليتيكو". وفي دول البلطيق الأمر سيّان، حيث قد يكون للتهديد الذي تشكله روسيا، تأثير كبير على نتيجة التصويت، حيث يتم فهم الدفاع والأمن من منظور محلي، فالناخبون تحرّكهم المخاوف بشأن غزو محتمل لبلادهم، وليس الصورة الجيوسياسية الأشمل التي يرسمها الاتحاد الأوروبي.

ما سبب عودة اليمين المتطرف إلى الواجهة؟

من الصعب حصر العوامل والأسباب لتفسير ظاهرة صعود أحزاب اليمين المتطرف وارتفاع شعبيتها في أوروبا، فالأوضاع السياسية والتنافس بين الأحزاب التقليدية، المحافظين والليبراليين، خلقت تصدعات أدّت إلى حدوث فجوات في المشهد السياسي برزت من خلالها الأحزاب اليمينية المتطرفة بخطاباتها الشعبوية القومية لسد الفجوة.

يتواجد إذا شبكة متداخلة من العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، مما يجعل تحديد السبب الرئيسي وراء صعود اليمين المتطرف بدقة أمراً لا يتسم باليسر، إلا أنه يمكن الربط بين الأزمة الاقتصادية التي تمر بها أوروبا اليوم والأزمة عينها التي صعدت الحركات الفاشية والنازية من رحمها. فالأزمة المالية العالمية عام 2008 مثلًا، وما رافقها من سياسات اقتصادية من جانب الاتحاد الأوروبي بغرض السيطرة على ارتداداتها والتي أدت إلى اتساع الهوة بين الطبقات الاجتماعية أعطت دفعة كبيرة لموجة من الصعود لأحزاب اليمين المتطرف. ففي فرنسا، ارتبطت عودة جماعات اليمين المتطرف بحالة الهلع من ركود الاقتصاد، في ظل ترسيخ سردية الأمة العظمى التي آل بها الحال إلى الانحدار لأن الثقافات الغريبة، وخصوصًا الإسلامية والأفريقية، تحاصرها وتريد النيل منها.

الفكرة عينها تحدثت عنها صحيفة "الغارديان" البريطانية في تقرير لها حول أسباب صعود اليمين المتطرف في أوروبا، حيث كان قلق الأوروبيين من ارتفاع تكاليف المعيشة وأسعار الطاقة سببًا أساسيًا وراء نجاح تلك الأحزاب في السويد ثم إيطاليا ومن قبلهما المجر.

جوهر خطاب "اليمين المتطرف"

التأثيرات السياسية والاجتماعية والثقافية التي تنجم عن الأزمات الاقتصادية والمالية الكبرى قد تكون من العوامل التي يُتفق أنها وراء صعود اليمين المتطرف في أوروبا بحيث تؤدي إلى خلافات سياسية بين الأحزاب الرئيسية، منها من يحكم ومنها من يعارض وقت الأزمات، بشأن أفضل السبل للتعافي، فيما تظهر بالمقابل أصوات تلقي باللوم عليهما معاً وعلى "الغرباء"، أو بمعنى أكثر دقة، كل من يختلف عمن يرَون أنفسهم أهل البلد، وبالتالي تشتعل مشاعر العداء والبغض نحو "الغرباء"، وتصبح الأرض خصبة لنمو الأفكار العنصرية القومية، والتي يغذيها زعماء اليمين المتطرف بجرعة دينية تزيد الطينة بلّة. والتاريخ شاهد على ذلك، فالنازية والفاشية نشأتا في أوقات اقتصادية عصيبة، في ظل الكساد الكبير الذي اجتاح العالم في ثلاثينات القرن الماضي. أما اليوم فوجد أحفاد هتلر وموسوليني الطريق ممهدة بفعل الركود الاقتصادي الذي يزحف ببطء نحو أوروبا، بخلاف الحرب الروسية – الأوكرانية التي تشهد مزيدًا من التصعيد المتسارع، وهي الأكبر في القارة العجوز منذ الحرب العالمية الثانية.

التصويت لليمين ليس بالضرورة قناعة

من الصعب الجزم بما يحمله المستقبل القريب بشأن إحكام اليمينيين قبضتهم على زمام الأمور في القارة العجوز، لكن المؤشرات تدل على استمرار هذا الصعود المتنامي للأحزاب اليمينية المتطرفة، إذ إنه من المتوقع ارتفاع الموجة اليمينية المتطرفة لتشمل دولاً أوروبية أخرى، لتكون القارة بذلك أمام دورة تاريخية جديدة تحدث حوالي كل قرن، تنزوي فيها القيم الليبرالية لصالح قيم ترتكز على إقصاء الآخر ورفض التعددية الثقافية والدينية والأيديولوجية كما كان الحال بعد الحرب العالمية الأولى.

وعند المراقبة الدقيقة للأحداث المتتالية على المستوى الأوروبي، نلاحظ أن النموذج الليبرالي الغربي يواجه مأزقًا حقيقيًا، خاصة بعد تحوله من نموذج يهدف لتحقيق الحرية والمساواة والعدالة إلى أداة لتوطيد سيطرة فئات معينة على السلطة والثروة على حساب الفئات الأضعف في المجتمع... بمعنى آخر، إن الإقبال على التصويت لليمين المتطرف ليس بالضرورة تصويتاً عن قناعة، بقدر ما أنه تصويت احتجاجي للتخلص من السياسات النيوليبرالية السائدة.

ولعل بريطانيا خير مثال على ما تم شرحه؛ فانسحابها من الاتحاد الأوروبي كان بمثابة خطوة على طريق التفكك الأوروبي وأطلق العنان لأحزاب اليمين المتطرف، التي تشكك في جدوى الوحدة الأوروبية وترفّع التقوقع داخل حدودها القومية إلى قمة هرم أولوياتها. وبعد الـ "بريكست"، ظهر ما يطلق عليه "فريكست" وهي حركة تدعم خروج فرنسا أيضًا من الاتحاد، وفي ألمانيا ظهر حزب "البديل من أجل ألمانيا" عام 2013 الذي ارتكز على المناداة بانسحاب برلين من عملة "اليورو" الأوروبية الموحدة، والعودة إلى عملة "المارك" الوطنية.

وفي ظل استمرار الحرب في أوكرانيا وتفاقم أزمة الطاقة، من المتوقع بطبيعة الحال عند كل شتاء، أن تزداد أوضاع الأوروبيين الاقتصادية سوءًا بسبب احتدام الحرب الاقتصادية مع روسيا، وهو ما يعني مزيدًا من الدعم والتأييد للأفكار اليمينية. كما أن الأحزاب التقليدية، سواء الليبرالية أو اليسارية أو حتى اليمينية المعتدلة، بدأت تعدل بخطابها السياسي وبرامجها الانتخابية لتخاطب أنصار اليمين المتطرف، وهو ما يعد اعترافاً ضمنياً بمدى نمو نسبة تأييد المزاج العام لتلك الأحزاب، وهو ما يعني أن وصولها إلى السلطة، في باقي الدول الأوروبية، يبدو وكأنه نتيجة حتمية ومسألة وقت، محفوفة بالمخاطر، لا شك.

انقسام بشأن الحرب الروسية – الأوكرانية

إن بعض تيارات اليمين الصاعدة في الانتخابات الأوروبية، تعارض السياسات الحالية إزاء الحرب الروسية – الأوكرانية، وهو ما يترتب عليه احتمال أن تظهر مقاربة أوروبية جديدة ومغايرة عما سبق في إدارة الحرب وتحديد مستقبلها. هذا وقد فاقمت حرب أوكرانيا حدّة الأزمات الاقتصادية في أوروبا، حيث خرجت مظاهرات تطالب بالحد من المساعدات الضخمة التي تخرج من الخزائن العامة للبلاد إلى أوكرانيا.

إلّا أن اليمين المتطرف منقسم في البرلمان الأوروبي إلى كتلتين بشأن الموقف من روسيا، فيعد رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، من أكثر السياسيين اليمينيين المعارضين للحرب ولفرض عقوبات على روسيا. كما أن زعيم حزب الحرية النمساوي هربرت كيكل، أكد أمام مناصريه بعد إعلان تقدم الحزب في انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة، على حياد فيينا، منتقدًا الدعم المقدّم لكييف والعقوبات المفروضة على موسكو.

أما في المقابل، حزب أخوة إيطاليا الذي تتزعمه رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، والذي حقق تقدمًا أيضًا في انتخابات البرلمان الأوروبي، يؤيّد الحرب الاقتصادية على روسيا.

يضاف إلى ذلك، من المرجح أن تأخذ العقوبات على واردات الغاز الروسي منحى مختلفًا، إذ من المحتمل تراجع برامج الطاقة المتجددة وغيرها، مثل الهيدروجين والميثان الحيوي مع صعود الأحزاب اليمينية حيث يرفض كثير منها العقوبات المفروضة على موسكو.

أوروبا التي دمرتها النازية والفاشية من قبل، تبدو في طريقها لاحتضان أحفادهما، ممثلين باليمين المتطرف بفعل الأزمات الاقتصادية، التي تسبب بها القادة الأوروبيون الحاليون، وذلك بسبب انسياقهم وراء القيادة الأميركية، لعدة دلائل لا حاجة ربما لإبرازها، إنما ذلك لم يجلب لأوروبا سوى مزيدٍ من الأزمات والتحديات، سيما في حرب أوكرانيا، غير آبهين لما قد تحدثه موجة الصعود الصاروخي للحركات اليمينية، ما يضع القارة العجوز والعالم أمام سيناريوهات قديمة متجددة، مع الإبقاء على جميع الاحتمالات مفتوحة.

| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) اضغط هنا

 

تسجل في النشرة اليومية عبر البريد الالكتروني