طوني عيسى - الجمهورية
يعمل بنيامين نتنياهو على استثمار الدعم الأميركي لإسرائيل، إلى الحدّ الأقصى. ومنذ اندلاع الحرب في غزة، يتصرف الإسرائيليون في اعتبارهم طفل واشنطن المدلّل والواجب حمايته بأي ثمن و«ظالماً كان أم مظلوماً». وخلال الردّ الإيراني الأخير على إسرائيل، ذهب نتنياهو إلى ما هو أبعد من الحماية. فلم يكتفِ بضمان واشنطن وسائر الأطلسيين لأمن إسرائيل، وكأنّها الولاية الأميركية 51، بل هو يسعى إلى توريطها في حرب تؤدي إلى إضعاف إيران و«تأديبها».
«اقتنع» نتنياهو من بايدن بإعطاء فرصة لطهران لكي تخرج من إحراجها المعنوي الذي تسببت به الضربة القاسية على القنصلية في دمشق. وفي المقابل، «اقتنع» الإيرانيون بضوابط الردّ، ولو بمئات المسيّرات والصواريخ، واكتفوا بالجانب المعنوي، أي بتحقيقهم أول خرق صاروخي من هذا النوع لأجواء إسرائيل، عبر تاريخها. ومن الواضح أنّهم تقصّدوا عدم التسبّب بخسائر بشرية أو عسكرية أو اقتصادية تجبر إسرائيل على ردّ مماثل.
«براغماتية» إيران حتّمت عليها أن تكتفي برفع معنوياتها قليلاً من دون الذهاب إلى تفجير حرب واسعة لا تتحمّل عواقبها. وكذلك، «براغماتية» نتنياهو سمحت له بقبول حدّ معين من المسّ بالمعنويات، من دون الوصول إلى انتكاسة. والآن ينصرف الطرفان الإيراني والإسرائيلي إلى التفكير البارد في الخطوات التالية، وكلاهما معروفان بالتأني في درس الخطوات وتنفيذها، بمعزل عن الاختلاف في طبيعة القدرات التي يملكها كل منهما وحجمها.
خيارات طهران الاستراتيجية حالياً هي:
1- عدم التفريط بالحلفاء في غزة ولبنان وسوريا والعراق واليمن. فهؤلاء يمثلون في بلدانهم نفوذ إيران.
2- الاستكمال الهادئ للقدرات النووية.
3- الحفاظ على خطوط الاتصال مفتوحة مع واشنطن، والإيحاء بالاستعداد لعقد التسويات معها في أي لحظة.
4- تحضير إيران للمتغيّرات الدولية، من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط، خصوصاً مع احتمال وصول رئيس جديد للولايات المتحدة، بعد أشهر.
5- التصدّي بكل الوسائل لأي محاولة لإضعاف النظام والرهان على تغييرات من الداخل الإيراني.
وأما خيارات نتنياهو الاستراتيجية فهي:
1- استكمال المشروع الاستراتيجي الرامي إلى حسم الملف الفلسطيني. وهذا يقتضي اجتياح غزة وتهجيرها والقضاء على «حماس»، وعلى الأرجح تهجير فلسطينيي الضفة الغربية إلى الأردن لاحقاً.
2- إضعاف النظام الحالي في إيران وإحباط مساعيه إلى امتلاك السلاح النووي ومنعه من التوسع ليصبح على تماس مع إسرائيل.
3- استقطاب مزيد من العرب إلى مسارات التطبيع.
4- خلق تحالف عسكري دولي ـ إقليمي، بقيادة الولايات المتحدة، يتولّى التصدّي لإيران. والنقطة الأخيرة هي أولوية نتنياهو بعد رشقات الصواريخ والمسيَّرات التي دخلت إسرائيل فجر الأحد.
المراقبون يقولون إنّ إسرائيل التي سجّلت بسلبية نجاح إيران في تنفيذ هذا الخرق العسكري التاريخي لـ»حدودها»، ولو من دون وقوع خسائر، سجّلت في المقابل إيجابية خرق من نوع آخر، عسكري وسياسي، وتمثَّل بدور الأردن الأساسي في إحباط الهجوم الإيراني، من خلال دفاعاته الجوية. وقد ارتفعت في إسرائيل أصوات تطالب بالبناء على هذا الموقف الأردني لتأسيس حلف دفاعي مشترك ضدّ إيران، بقيادة الولايات المتحدة ومشاركة الأطلسيين.
وهناك إغراء يمكن تقديمه إلى الأردن ومصر ودول عربية أخرى في هذا الشأن. فإضافة إلى الوعد بضمان استمرار الاستقرار في أي دولة تنضمّ إلى هذا الحلف، وحماية نظامها، فإنّها تحصل على الدعم العسكري والاقتصادي كمكافأة. وفي اعتقاد محللين غربيين أنّ بلداً محاذياً لإسرائيل، كالأردن، يتعرّض للتوترات الداخلية المقصودة وهواجس التهجير الفلسطيني إليه، قد يكون مستعداً للبحث في هذه الفكرة، لعلّها تساعده في تجنّب المأزق. لكن دول الخليج العربي قد لا تكون متحمسة، لئلا تضع نفسها في المتراس المقابل لجارتها طهران.
إذاً، الشرق الأوسط مقبل على مواجهة صعبة ومؤلمة بين أمبراطوريتين: إسرائيل وإيران، وتنافسهما امبراطورية ثالثة هي تركيا. وأما العرب فهم ساحة النزاع ووقوده والمادة التي يريد الثلاثي الطامح إلى التوسّع في تقاسمها. وتستعد الامبراطوريات الثلاث لخوض مواجهة طويلة الأمد في ما بينها للسيطرة. وإذا كان الفُرس والعثمانيون قد خبِروا إخضاع الإقليم في فترات معينة من التاريخ، فإنّ الإسرائيليين يقومون اليوم بمحاولة ستمتد لعقود ولا تعرف نتائجها.
ولكن، على المدى القصير، ماذا سيفعل الإسرائيليون؟ هل سينفّذ نتنياهو تهديده بالردّ، كي يلقن الإيرانيين وسواهم درساً «بعدم التعرّض لأمن إسرائيل» مجدداً، أم إنّ حجم الضربة الإيرانية لا يستحق العناء؟ وإذا قرّر الردّ فهل يلجأ إلى الطريقة التي اعتمدها الإيرانيون في ضربتهم، أي إلى استعراض القوة من دون استخدامها فعلاً؟
المراقبون يقولون إنّ نتنياهو لن يتحدّى إرادة بايدن الذي نصحه بعدم الردّ لأنّه «لا يستحق» هذه المغامرة، وأنّ الأفضل تجنّب دفع الوضع إلى ردود مضادة لا تنتهي. ففي الواقع، وقف الحليف الأميركي مع إسرائيل، بقوة وإخلاص، عندما تعرّضت للرشقات الإيرانية. وتدخّله المكثف مع الحلفاء الأطلسيين، من العراق وسوريا والأردن والبحر، شكَّل مصفاة منيعة للأجواء أنقذت إسرائيل وسمعة جيشها من ضربة كان يمكن أن تُضاف إلى ضربة 7 تشرين الأول 2023. ولا يمكن لنتنياهو أن يتجاوز هذه الخدمة التي قدّمها إليه الأميركيون والأطلسيون عموماً، وأن يذهب في مغامرات متفردة، لأنّه سيثير استياء هؤلاء الحلفاء.
وفي الترجمة، هو لن يجد منفعة في تنفيذ ضربة استعراضية ضدّ إيران، إذا كانت ستخسره التعاطف الدولي، وبعض التفهم العربي، اللذين حظي بهما بعد الردّ الإيراني، من دون أن تحقق أي إنجاز سياسي أو عسكري. لكن نتنياهو لن يفوّت فرصة الاستفادة من الظرف السانح إذا توافرت التغطية لضربات فاعلة ضدّ إيران تتسبب في إضعافها. ومن الأفكار التي تداولها الإعلام الإسرائيلي أخيراً، أَن لا تكون ضربة إيران عسكرية بالمعنى التقليدي، بل من طبيعة الحروب الحديثة التي تُستخدم فيها المعلوماتية والذكاء الاصطناعي والاتصالات والطاقة الكهرومغناطيسية التي من شأن استخدامها ضرب كل الأجهزة العاملة بالكمبيوتر على مساحات شاسعة. وقد تشمل الأنشطة النووية الإيرانية.
وحتى الآن، ما زالت التغطية الأميركية والأوروبية والعربية لعملية من هذا النوع غير متوافرة. ولذلك، سينتظر نتنياهو. وهذه المرّة، هو مَن سيحتفظ بحق الردّ «في انتظار الزمان والمكان المناسبين».