الجمهورية
جورج شاهين
سالَ حبر كثير حول ما حمله الموفد الاميركي عاموس هوكشتاين الى المسؤولين اللبنانيين في زيارته لبيروت، وإذ بقي معظمه في باب التكهنات فقد تسرّب القليل منه، حيث تبيّن أنه لم يكن لديه سوى مجموعة اقتراحات لا ترقى إلى مرتبة «المبادرة»، لكنها تمهّد لِما يمكن اعتباره مشروع «اتفاق إطار» جديد يستنسخ تجربة 2020 التي قادت الى «الترسيم البحري». وعليه، ماذا في التفاصيل؟
على وقع التناقض بين ما أعلنه هوكشتاين منذ تكليفه بعض المهات في لبنان والمنطقة وبين مضمون المواقف الاسرائيلية بما حملته من تهديدات، تزامنت مهمته الاخيرة في بيروت مع ارتفاع حدة التوتر على الجبهة اللبنانية مقابل ما رصد من تراجع للعمليات العسكرية في قطاع غزة توطئة للمرحلة الثالثة التي تستعد اسرائيل لدخولها بالتنسيق مع الادارة الاميركية في انتظار معرفة من ينتصر في تحديدها ووفق اي شروط، الاميركية منها ام الاسرائيلية، خصوصا انّ واشنطن تريد في هذه المرحلة تقليص حجم المجازر التي يرتكبها الجيش الاسرائيلي في حق المدنيين وسعيها الى إعادة النازحين منهم الى شمال القطاع وتكثيف برامج المساعدات الانسانية والاغاثية.وعلى هذه الخلفية، وقبل الدخول في شكل ومضمون الجديد الذي نقله هوكشتاين، احتار المراقبون في تصديق القادة الإسرائيليين أم هوكشتاين نفسه؟ وعندما سعوا إلى إجراء مقارنة سريعة توقفوا امام الجديد المعلن منهما، خصوصا ما يُعد على لائحة الفوارق، ومنها:
- تحدث هوكشتاين عن انّ الجانبين اللبناني والاسرائيلي لا يريدان حلا عسكريا وانهما شجّعاه على السعي الى حل ديبلوماسي يُعيد الامن والاستقرار الى المناطق الحدودية، في وقت يواصل القادة الاسرائيليون اطلاق التهديدات منذ اليوم التالي للإعلان عن «جبهة المساندة» للمقاومة الفلسطينية من لبنان. فعلى ألسنة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزري خارجيته ودفاعه ايلي كوهين ويوآف غالانت لم يوفّر الاسرائيليون مناسبة من دون تأكيد ضرورة القيام بعملية عسكرية تُبعد «قوات الرضوان» عن النقاط الحدودية قبل الحديث عن ضرورة سحب جميع عناصرها الى شمال نهر الليطاني، تزامناً مع نشر التعليقات التي تقارن ما تشهده غزة من مجازر وتدمير فاقَ كل تصور، بما يمكن ان تكون عليه مناطق لبنانية من الضاحية الجنوبية لبيروت الى عمق الجنوب اللبناني إن لم يفعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم.
- تحدث هوكشتاين للمرة الأولى من على منبر عين التينة عن وقف العمليات العسكرية بطريقة تضمن «العودة الآمنة» للنازحين اللبنانيين والإسرائيليين على حد سواء إلى قراهم على جانبي الحدود. ما دَلّ الى تغيير مهم في النظرة الاميركية بعدما كانت تشدد ومعها المسؤولين الاسرائيليين والدوليين على ضرورة إنهاء أزمة المستوطنين النازحين من كيبوتزات الشمال والجليل الاعلى في موازاة الحديث على استئصال أسباب التوتر على النقاط الحدودية وكأن ليس هناك من مشكلة على الجانب الآخر من الحدود.على هذه الخلفيات يمكن القول، بحسب المراقبين أنفسهم، انّ هوكشتاين قد انخرط فعلياً في قلب الفريق الأميركي الذي يقوده الرئيس جو بايدن ومعه وزير خارجيته أنتوني بلينكن المكلّف البحث عن حَل لما يجري قبل الوصول الى ما يسمّى «اليوم التالي» للحرب، خصوصاً انّ هوكشتاين تولى معالجة ملف الحرب بما يتصل بالشق اللبناني من «بوابته الجنوبية». فهو الذي أنجز التفاهم على ترسيم الحدود البحرية ومن السهل عليه من خلال علاقاته التي بناها مع الجانبين استكمال المشوار الخاص بالحدود البرية بعدما تجدّد الحديث عن آلية تطبيق مما تبقى من مندرجات القرار 1701 وخصوصا لجهة إنهاء الخلافات حول النقاط الـ13 وما تبقّى من عملية الترسيم البحري المتصلة بمصير النقطة «B1» الذي ما زال معلقاً، ومعها مصير شريط الطفافات المتنازع عليه منذ تجميد البحث في مصيره.
وعليه، فقد راهنت الادارة الاميركية على دور لهوكشتاين منذ ان كلّفه بايدن للمرة الأولى التدخل في لبنان لتطويق ذيول الغارة الاسرائيلية التي أودت بحياة الجدة وحفيداتها الثلاث على طريق عيناتا، في اعتبار انّ ما حصل كان عدواناً يطاول المدنيين اللبنانيين بنحوٍ سافر وخرقاً لاعتراف طرفي النزاع بضرورة تجنّب المَس بهم كما تقول «قواعد الاشتباك»، وهو ما قام به هوكشتاين قبل ان يكلّف البحث في القرار 1701 وتهدئة الجبهة الشمالية مع لبنان، والتي شكّلت مادة لمهمته الجديدة التي دفعته الى زيارته الاخيرة لبيروت.وعند تناول هذه المهمة، أجمعَت مصادر مَن التقاهم هوكشتاين على انه لم يحمل اي مبادرة كاملة كما اعتقد البعض. وانه، والى جانب سَعيه الى فهم بعض النقاط ربطاً بمستجدات العمليات العسكرية، أراد الوقوف على رأي المسؤولين الرسميين مما يمكن تحقيقه جنوباً. مع عِلمه المسبق بمحدودية فهمهم لما يجري وما يمكن ان يُقدم عليه «حزب الله» وقدرتهم على التأثير في مجرى الأحداث. ولكن التجارب السابقة التي خاضها ومعه السفيرة الأميركية السابقة دوروتي شيا دفعته الى الاعتقاد بأنّ الرئيس نبيه بري يؤدي دور الوسيط بين الحكومة و«حزب الله» من موقعه المؤثر في موقف رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وقدرته على التواصل مع «الحزب». فهو ما زال أحد طرفي «الثنائي الشيعي» وقد سبق له أن تولّى مهمات عدة شكّلت خط تواصل بين الحزب ومختلف القوى الداخلية والاقليمية والدولية.
ولذلك كله، وتأسيساً على ما تقدم، وبعدما كرّر هوكشتاين تأكيد ثوابت الموقف الأميركي لجهة دعم الجيش وقائده العماد جوزف عون، قدّم أمام ميقاتي عرضاً شاملاً لِما انتهت إليه محادثاته في تل ابيب، مؤكداً قدرة واشنطن حتى اللحظة على ضبط العمليات العسكرية من الجانب الاسرائيلي تحت السقف المحدد وانها لم ولن تسمح بأن تتوسّع الحرب في اتجاه أيّ من المنشآت الحيوية في لبنان والمدن والقرى التي لا تأوي كوادر «حزب الله» وحركة «حماس» وبقية المنظمات الفلسطينية التي انضَمّت إليها في حرب غزة. كذلك ناقش معه بعض المقترحات التي تتصل بالآلية الواجب اعتمادها للتأسيس للخطوات المقبلة.وفي المعلومات انّ هوكشتاين توغّل خلال لقائه مع بري في كثير من التفاصيل فقدّم عرضاً لرؤيته للحل على طول الخط الحدودي مُستثنياً أيّ بحث خلال المرحلة الراهنة في نقطة الـ «B1» لأسباب تتصل بضرورة التمعن بطريقة حلحلتها طالما أنها مرتبطة لدى الجانب الاسرائيلي بالوضع الامني وما تشكله بالنسبة إليه من عقدة لا يمكن فكفكتها في ظل العداء بين البلدين. كما ربط البحث في تلال كفرشوبا ومزارع شبعا وخراج بلدة الماري (الغجر سابقاً) بمصير الحدود السورية - الاسرائيلية وهضبة الجولان في اعتبارها بالنسبة اليهما انها ما زالت أراض سورية. وهو ما ادى الى ان يقدّم بري عرضا شاملا أحيا في ذاكرته «ثوابت الموقف اللبناني» من القرار 1701 والحدود، كان قد حفظها كاملة بعدما سمعها عشرات المرات الى أن انتهيا الى التأكيد أن لا جديد عملياً يمكن التوصّل إليه قبل وقف حرب غزة. ولذلك اتفقا على بدء السعي والتحضير لـ»اتفاق إطار» خاص بالحدود البرية على غرار ذلك الاتفاق الذي أُعلن عنه من عين التينة في 1 تشرين الأول عام 2020، وهو ما قد يستغرق وقتاً يمكن رَبط مساره على الاقل بأيّ تفاهم يتصل بحرب غزة وملحقاتها.