طوني عيسى - الجمهورية
عندما سحبت واشنطن حاملة الطائرات «جيرالد فورد» من المتوسط، كانت إدارة الرئيس جو بايدن تبعث برسالة واضحة وحازمة إلى بنيامين نتنياهو: لقد ساعدناكم لضمان أمن إسرائيل. والآن كفى، أوقفوا الحرب وافتحوا الباب للتسويات.
يعرف الأميركيون جيداً أنّ «حزب الله» ليس في وارد المبادرة إلى فتح الجبهة على مصراعيها مع إسرائيل، لأن لا مصلحة له ولا للبنان ولا لإيران في ذلك. كما يدركون أنّ عدداً من أركان الطاقم السياسي والعسكري المُمسك بالقرار في إسرائيل ليسوا متحمّسين، لا لاستمرار الحرب في غزة، ولا لتوسيعها في اتجاه لبنان والضفة الغربية، وأنّ المشكلة تكمن فقط في نتنياهو ورفاقه في اليمين المتطرف.
وقد عبّر بايدن قبل أيام عن وجود اختلافات أو خلافات مع نتنياهو وفريقه، حول النظرة إلى المسائل الساخنة، وأبرزها:
1 - ما حدود القوة المسموح باستخدامها في المواجهة الحالية في غزة؟
2 - هل سيحظى نتنياهو بتغطية أميركية إذا قرر فتح جبهة جديدة، موازية لغزة، في الجنوب اللبناني أولاً وفي الضفة الغربية ثانياً؟
3 - ما هو التصوّر لليوم التالي، بعد انتهاء الحرب في غزة؟
في الواقع، يجد نتنياهو مصلحة شخصية في استمرار الحرب، ويرتاح إلى توسيعها، لأن ذلك يكفل له تجميد ملفات قضائية يتخبّط فيها وعدم طرح مصيره السياسي على بساط البحث. فما من دولة تبدّل رئيس حكومتها وتختلق أزمة سياسية لها عندما تكون في حال حرب. ويحظى نتنياهو بدعم من قادة اليمين الأكثر تطرّفاً.
والمثير هو أن الرأي العام الإسرائيلي ينحو أكثر فأكثر إلى رفض طروحات نتنياهو. وقد أظهر استطلاع أجري قبل أيام أن نسبة الإسرائيليين الذين يدعمون بقاءه في رئاسة الحكومة تراجع إلى 34 %، مقابل 48 % عبّروا عن تأييدهم لتولّي بيني غانتس هذا الموقع. وهذا يعني أن «الليكود» سيصاب بهزيمة حتمية إذا أجريت انتخابات عامة الآن.
وتعيش الحكومة الإسرائيلية نزاعاً عاصفاً على خلفية اللجنة التي تم تشكيلها للتحقيق في مجريات يوم 7 تشرين الأول في غزة، وتحديد المسؤوليات عما حصل، إذ يتعاطف وزير الدفاع يواف غالانت مع رئيس الأركان هرتسي هليفي. وهذا النزاع دفع نتنياهو إلى رفع جلسة الاجتماع الوزاري المصغّر يوم الجمعة، بعدما علا الصراخ بين الفريقين.
وفي هذه المناخات، تحرّك موفدان لإدارة بايدن في إسرائيل، هما وزير الخارجية أنطوني بلينكن والمستشار لشؤون الطاقة عاموس هوكشتاين، بهدف إقناع رئيس الوزراء بإبقاء الحرب ضمن حدود ضيقة، والتحضير لنقاشات حول التسوية السياسية. والفريق الأميركي الذي يفاوض اليوم في إسرائيل يتعاطف مع نظرة المعارضة لا السلطة إلى ملف غزة. واللافت أنّ أسهم زعيم المعارضة يائير لبيد قد ارتفعت داخل الرأي العام. وبالتأكيد، يتحسّر نتنياهو على الزمن الذي كان فيه يفاوض دونالد ترامب وصهره جاريد كوشنير اللذين كانا ينسجمان تماماً مع طروحات اليمين الإسرائيلي، ويلبّيان طلباته بسخاء غير مسبوق.
اليوم، هناك حال من التشنج والمعاندة بين الرئيس الأميركي ورئيس الحكومة الإسرائيلية. ويجد نتنياهو نفسه مضطراً إلى معايشة إدارة بايدن كأمرٍ واقع، في العام الأخير من ولايته. ولكنه يطمح إلى معاودة العلاقة مع ترامب، صاحب الحظ الأكبر في العودة إلى البيت الأبيض بعد عام.
وفي اعتقاد بعض الخبراء أن كلّاً من الرجلين، بايدن ونتنياهو، يخوض معركة شرسة لإسقاط الآخر قبل بلوغ الاستحقاق الانتخابي الأميركي، في خريف العام الجاري. فقد بدأ بايدن يُجاهر برفضه خيارات نتنياهو الرامية إلى تدمير غزة وتهجيرها من أجل فرض أمر واقع سياسي هناك. وهو يريد وقف القتال، ما قد يمهّد لإحداث تغيير سياسي في إسرائيل، يزيح نتنياهو عن سدة الحكم ويتيح المجال للتسويات.
وفي المقابل، يراهن نتنياهو على إمرار العام الأخير من عهد بايدن بمنطق إضاعة الوقت، انتظاراً لعودة ترامب. وهو لذلك يعتمد المراوغة السياسية، في موازاة المراوحة العسكرية التي لا نهاية لها في المستقبل المنظور. وهو لن يشنّ هجوماً عسكرياً طاحناً في غزة - وأساساً هو عاجز عن القيام بذلك - بل سيواصل عمليات الاستنزاف والتدمير والتهجير في شكل بطيء ولكن طويل الأمد، ترافقها عمليات تصفية وصدمات وضربات خاطفة على مساحة الشرق الأوسط، كتلك التي جرت في الأسبوع الأول من العام الجديد.
وثمة من يعتقد أنّ لدى الأميركيين أوراقاً سياسية يمكن أن يلعبوها بهدوء في الداخل الإسرائيلي لإضعاف نتنياهو، من خلال الدعم الذي يقدمونه للمعارضة، كما أن نتنياهو يمتلك في المقابل قدرة على تحريك اللوبي المؤيّد له في داخل دوائر القرار الأميركي، ليلعب على وتر الانتخابات الرئاسية بين بايدن وترامب. ولذلك، يبدو العام الجاري حافلاً بالحملات والفضائح التي يُراد منها إضعاف ترامب أو بايدن، أو التأثير في الرأي العام لمصلحة أحدهما.
إنه عام ساخن عسكرياً في الشرق الأوسط، لكنه ملتهب سياسياً أيضاً، حيث الجميع يستعد لاستخدام ما يملك من أوراق، ولن يتورّع عن استخدام أساليب الابتزاز.