جورج شاهين - الجمهورية
ما بين الخامس والسابع من كانون الثاني الجاري زار الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل بيروت والتقى المسؤولين المدنيين والعسكريين و»حزب الله»، وغادرَ الى الرياض استكمالاً لجولته الشرق أوسطية مُتحاشياً أن تكون إسرائيل من ضمنها. وقياساً على حجم المواقف التي أطلقها تردّد البعض في الحديث عن «إنجازات» واصِفاً زيارته بالاستطلاعية طالما انه لم يحمل أي مبادرة. وعليه، طرح السؤال هل صحيح القول: «ليتها لم تكن»؟
لم تَشأ المراجع الديبلوماسية الاوروبية والغربية التوغل كثيراً في ما انتهت اليه زيارة بوريل لبيروت، فهي تؤكد انها زيارة لا بد منها في ظل النقاش الدائر في مجموعة الدول الاوروبية السبعة والعشرين التي يتكوّن منها الاتحاد على خلفية التناقضات الجديدة حيال ما يجري في جنوب لبنان وقطاع غزة، وخصوصا على مستوى العدوان المتمادي على أهلها منذ ثلاثة أشهر والمجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي نتيجة الاستخدام المفرط للقوة في مختلف محافظاته ومدنه كما في الضفة الغربية حيث تعددت الاجتياحات للمدن ومعها الاعتقالات وعمليات الإعدام المباشرة. فالجميع يدرك انّ ما انتهت إليه هذه العمليات العسكرية من فظاعات غير مسبوقة لم تشهدها اي حرب او اي عملية عسكرية في العالم منذ مطلع القرن الواحد والعشرين، باستثناء تلك التي امتدت لسنوات عدة كما حصل في العراق وسوريا واليمن وأوكرانيا.
وبناء على هذه المعادلة، يمكن قراءة الزيارات المكثفة التي بدأها الموفدون الدوليون والأمميون في اتجاه لبنان، الذين عبّروا صراحة عن حجم القلق مما يساورهم على أمن المنطقة والعالم، مهما تعددت لغاتهم وهوياتهم ومهماتهم من الشرق والغرب بمَن فيهم ممثلو الإتحاد الاوروبي والامم المتحدة. بحيث انه لم يكن أيّ منهم على استعداد لمناقشة دعواتهم الى وقف التصعيد، والحؤول دون حرب كبرى. فما لدى عدد منهنّ ومنهم من معطيات لا نقاش فيها، وهي توحي بإمكان تمدد الحرب في أي وقت محتمل، على الجبهات الاكثر سخونة، لا سيما منها الجبهة الجنوبية، بعدما أخذت بعض الأعمال العسكرية نطاقاً يهدّد بإمكان اندلاعها في «لحظة تَخلّ» يخرج فيها أي من الطرفين عن «قواعد الاشتباك» على رغم من الشهادات الدولية بالتزام الطرفين بدقتها، من دون ان يطلع عليها أيّ من المهتمين بالنظر الى ما فيها من «اسرار مشتركة» ابعدت فهمها - باعتراف عدد منهم - وخصوصاً في بعض العمليات النوعية التي نفذها الطرفان.
وفي اعتقاد الديبلوماسيين الاوروبيين انّ ما يجري غير مفهوم في بعض من جوانبه، ذلك انّ بعض العمليات التي صنّفَت على لائحة «الموجعة» التي قام بها الطرفان لم تغيّر في مجرى الاحداث بمقدار كبير يترجم حجم المخاوف التي عبّروا عنها. فاغتيال 5 من قياديي «حزب الله» في بيت ياحون لم يتسبّب بأيّ تحوّل كان منتظراً بعد العملية. وإن أراد البعض تشبيهها بالجريمة التي ارتكبت في حق الجدة وحفيداتها الثلاث على طريق بلدة عيناتا الجنوبية يكتشف انها كانت اخطر بكثير ممّا جرى في بيت ياحون. وإن تذكّر البعض أنها قادت بالرئيس الاميركي جو بايدن الى إيفاد مستشاره الشخصي عاموس هوكشتاين من قطر الى بيروت في مهمة عاجلة، للتأكيد انه من غير المقبول ان يحصل ما حصل رابطاً موقفه بضرورة ضبط النفس لأنّ استهداف المدنيين كان خطأ فظيعاً ولن يتكرر. وهو أمر ينسحب على الاعتداء الذي أدى الى استشهاد احد العسكريين اللبنانيين في بلدة العديسة قبل شهر تقريباً ودفعَ بالجيش الاسرائيلي الى الاعتذار، لافتاً الى انّ ما جرى كان خطأ وهو ما كان ليحصل لولا قيام مسلحين بتحركات مريبة في جوار موقع الجيش اللبناني.
وان تناولت القراءة الأممية والديبلوماسية لعملية اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» الشيخ صالح العاروري فقد أعطت هذه المراجع اهمية للموقف الاسرائيلي، الذي وإن لم يَتبنّ العملية العسكرية او ينفيها بشكل رسمي، فقد كان مُصرّاً على القول انها لم تستهدف لا «لبنان» ولا «حزب الله»، وما جرى كان تنفيذاً للأوامر التي أعطاها رئيس حكومة الحرب بنيامين نتنياهو الى جهاز «الموساد» بملاحقة قادة حماس وقَتلهم أينما وجدوا في مختلف انحاء العالم، ولهذه الغاية فقد تمّ الربط عند الحديث عن دقة العملية عند اختيار موعد تنفيذها في اللحظة التي غادر فيها مسؤولو الحزب اللقاء الذي كان مُنعقداً مع العاروري ليكون المستهدفون من «قادة حماس» دون سواهم. وطالما انه لم يجر اي تحفظ أو نفي لهذه المعلومة فإنها قد تكون دقيقة وصحيحة.
وإن تَمّ الربط بين عملية الإغتيال و»الرد الأولي» عليها بقصف قاعدة «جبل ميرون» الجوية، فإنّ هناك سيناريو بدأت ترتسِم معالمه في الكواليس الضيقة. وهو يقول انّ هناك تنسيقاً وتوزيعاً للأدوار بين الحزب والحركة. فالحزب فسّر قصف القاعدة الجوية على أنها المركز الرئيسي الذي خطّط وأدار الغارة التي استهدفت منطقة الضاحية الجنوبية، وهي واحدة من مسلسل مهماتها العامة واختصاصها. فهي التي تنسّق الأعمال الجوية للطيران في المنطقة وفي نطاق يتعدى شعاعه الـ 350 كيلومتراً ويشمل اجواء لبنان وسوريا والعراق، وصولاً الى الجنوب التركي وعمق البحر المتوسط كما الأردن. فحصَرت العملية بمسألة استهداف الضاحية بمعزل عن نتائج الغارة المتصلة باغتيال العاروري ورفاقه الفلسطينيين. وهو امر يقود الى أنّ الرَد على حادث الإغتيال في حد ذاته هو على مسؤولية حركة «حماس» بعد الفصل بين «مسرح الجريمة» و»حصيلتها». وهو ما لفتَ اليه مسؤول الحركة في الخارج اسامة حمدان الذي كشفَ أمس الأول، الاحد، انّ الحركة «تعهدت بالرد على اغتيال إسرائيل للعاروري»، ما يعني بلا شك عدم الاكتفاء برد الحزب في شكله ومضمونه وهدفه. وعليه، فقد التقيا على اعتبارها «رداً أولياً» يمهّد للتجزئة والفصل بين الردين.
وانطلاقاً من هذه المؤشرات السياسية والديبلوماسية وغيرها، فإنّ زيارة بوريل لبيروت جاءت في خضم هذه الاجواء من دون ان يتقدم بأي مبادرة متكاملة، مُكتفياً بمجموعة من الاقتراحات التي جمعها في رسالة وحيدة ومباشرة بالحد الادنى الذي تتوافق عليه الدول السبعة والعشرين المنتمية الى الاتحاد. فهو كان واضحا عندما لفتَ الى تَشعّب المواقف بين مجموعة الدول هذه والتقائها، ومهما اختلفت الآراء في مقاربة ما يجري في قطاع غزة ولبنان فإنّ دول الإتحاد مجمعة على رفض توسّع الحرب وضرورة حصرها. معتبراً أنه لن يكون هناك أي مستفيد منها، وإن ادّعى الطرفان النصر في نهايتها فلكل منهما دوافعه المختلفة عن الآخر.
وعليه، تنتهي المراجع الديبلوماسية الى التأكيد انّ زيارة بوريل لم تكن ضرورية وكأنها لم تكن عند البحث عن إنجاز محقّق ما زال مفقوداً. ولكن، ومنعاً لأي حكم جائر، فقد عكست الزيارة إعادة ترتيب لعلاقات بوريل مع المسؤولين اللبنانيين بعدما كانت سلبية نتيجة دفاعه المُستميت بطريقة استفَزّت جميع اللبنانيين عن قرار البرلمان الاوروبي برفض الدعم لاعادة النازحين السوريين الى بلادهم. عَدا عن بعض الرسائل التي وجّهها من بيروت. فقَوله «إنه هنا اليوم في بيروت بعد زيارتين لإسرائيل وفلسطين»، لقيَ ترحيباً لبنانياً لمجرد اعترافه بضرورة قيام «دولة فلسطين» قبل ان يعقد اجتماعاً لافتاً ومهماً مع قيادة «حزب الله»، على رغم من انه لم ينتهِ بجديد. فهو كرّر ما قاله عن رؤيته للحل في المنطقة وتبلّغ بوضوح انّ البحث في ملفات تحديد الحدود كما انتخاب رئيس رَهن بوقف الحرب على غزة. وبالتالي، لا يعني انّ هناك أي جديد يستحق التوقف عنده.