د. عادل مشموشي
لقد وضعت عمليَّة طوفان الأقصى العدو الإسرائيلي في مأزق استراتيجي وجودي، بحيث أنه خلال ساعات انكشف الكثير من عوراته، وثبت عجزه نتيجة فشله الذريع في السَّيطرة على مجريات الخروقات العسكريَّة التي قام بها مقاتلو منظمة حماس، كما بيّنت الأعمال القتاليَّة التي تلتها عجز الكيان عن تحقيق أي إنجاز عسكري أو استخباراتي خلال عمليَّات القتال التي مضى عليها ما يزيد عن 45 يوماً، بحيث لم يتمكن من كشف أماكن احتجاز الأسرى الإسرائيليين الذين اختطفتهم حماس واحتفظت بهم كرهائن، وعجزه أيضاً عن تحرير ولو أسير واحد منهم. الأمر الذي دفعه مكرهاً إلى الرضوخ إلى إجراء عمليَّات تبادل ما بين الأسرى والرهائن الإسرائيليين والمعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيليَّة وفق الشروط التي وضعتها منظمة حماس. كل ذلك يدلّ على حالة التَّخبُّط التي يعاني منها قادة الكيان الإسرائيلي وعجزهم عن ردع حماس أو شلّ قواها العسكريَّة في الوقت الذي يتبنّون فيه شعارات عالية السقف كالقضاء على حماس وتهجير الفلسطينيين من قطاع غزَّة.
هذا العجز العسكري الإسرائيلي مقابل صمود الشعب الفلسطيني والحرفية العالية لمقاتلي كتائب القسَّام، ترجمَ بتبنّي قادة الكيان خيار الاقتصاص من الشَّعب الفلسطيني، فبادروا إلى شنّ حرب إبادة جماعيَّة غير عابئين بكل المواثيق والاتفاقيات الدَّولية التي تُحرِّم الإفراط في استعمال القوَّة كما استهدافَ المدنيين خلال العمليَّات الحربيَّة، مستسهلين ارتكاب أبشع صور جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانيّة وجرائم الإرهاب، باستهدافهم للأماكن المأهولة بقذائف ذات قدرات تدميريَّة عالية؛ أخذت الولايات المتحدة الأميركية وبعض من الدول الغربيَّة المتعاونة على عاتقها مسؤوليَّةَ تزويد الكيان بها، لإنزال أكبر قدر من الضَّحايا بين الأبرياء الفلسطينيين ومعظمهم من الطَّاعنين في السِّن والنساء والأطفال، بغرض إكراه قادة حماس على تقديم تنازلات سياسيَّة، وإرغامهم على إخلاء سبيل ما لديهم من أسرى، وحرمانهم من فرصةِ المطالبةِ بإطلاق سراح المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيليَّة.
ليست المرَّة الأولى التي يرتكب فيها الكيان الصهيوني أبشع المجازر بحق الشعب الفلسطيني الأعزل بغرض تهجيره من أرضه واستيلائه عليها. إذ بدأت معاناة الشعب في قطاع غزَّة مع الصهاينة منذ العام 1967 حيث خاض صراعاً غير متكافئ معهم، تمكن الصهاينة بنتيجته من السيطرة عسكريًّا على كامل أراضي قطاع غزَّة، ومن ثم لجأ الكيان، منذ العام 1987، إلى إقامة العديد من المستعمرات فيه، خصصت لإيواء وافدين جدد من الصهاينة، الأمر الذي أدّى إلى انتفاضة فلسطينيَّة، تحوّلت إلى ثورة شعبيَّة دامت لغاية عام 1993 والتي توقَّفت استجابةً لروحيَّة اتفاقية أوسلو التي أبرمت ما بين إسرائيل ومنظمة التَّحرير الفلسطينيَّة برعاية أميركيَّة، والتي قامت على فكرة حل الدَّولتين، وامتناع إسرائيل عن إقامة المستوطنات مقابل اعتراف منظمة التَّحرير الفلسطينيَّة بحق إسرائيل في الوجود.
لم يلتزم القادة الإسرائيليون المتعاقبون بتنفيذ بنود اتفاقية أوسلو، بل تبنّوا سياسة التَّضييق الاقتصادي على الفلسطينيين، وآقاموا المزيد من المستوطنات، الأمر الذي أدّى إلى تجدد الانتفاضة الشعبيَّة في خريف عام 2000؛ قابلها الكيان بعنف شديد، ورغم ذلك نجحت الانتفاضة في دفع إسرائيل لسحب جيشها من القطاع خلال شهر آب من العام 2005، بعد مكوث دام ثمانية وثلاثين عاماً، مستعيضة عن تواجدها العسكري ببناء تحصينات على امتداد حدود القطاع الذي يقطنه ما يقارب مليونان وثلاثماية ألف فلسطيني.
استغلَّت منظمة حماس انسحاب الكيان الإسرائيلي من قطاع غزَّة لتعزيز وجودها السياسي فيه، إلى حد مكَّنها خلال شهر كانون الثاني عام 2006 من الفوز بأغلبية المقاعد في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، الأمر الذي ساعدها على إحكام سيطرتها على كامل القطاع بحلول عام 2007، ونجحت في أقامة سلطة مستقلة عن السُّلطة الفلسطينيَّة القائمة في الضَّفة الغربيَّة، متسبِّبةً بانشقاق الصف الفلسطيني. راق هذا الانقسام لإسرائيل لاعتقادها أنه أضحى بإمكانها اللعب على التناقضات الفلسطينيَّة لتعطيل قيام دولة فلسطينيَّة موحَّدة عاصمتها القدس الشرقيَّة، ولكنها حرصت على استمرار توصيفها لحماس كمنظَّمة إرهابيَّة لرفضها الإعتراف بدولة إسرائيل، واعتماد التوصيف ذريعةً لقطعِ المساعدات عن القطاع.
أخذت ملامح العدائيَّة ما بين حماس والكيان الإسرائيلي تتظهَّر أكثر فأكثر، وارتفعت وتيرة العنف بينهما نتيجةَ تمادي الكيان الغاصب بسياسته القمعية تجاه الفلسطينيين واعتقال العديد منهم. قامت حماس بتاريخ 25 حزيران من العام 2006 باختطاف المجند الإسرائيلي جلعاد شاليط لغرض استبداله بمعتقلين فلسطينيين، لكن الرد الإسرائيلي العنيف ترجمَ بهجوم بري توغلت بنتيجته وحدات إسرائيليَّةٌ مؤللة داخل القطاع تحت غطاء من القصف الجوي العنيف، وأنزلت بالفلسطينيين خسائر بشريَّة وماديَّة فادحة، ورغم ذلك لم تسفر تلك العملية عن تحرير شاليط، ولم يحصل ذلك سوى بعملية تبادل للأسرى بعد خمس سنوات من اختطافه.
استمرَّت حالة التَّوتر بين الكيان الإسرائيلي ومنظمة حماس إلى أن تمكّنت السلطات المصريَّة في إرساء هدنة بين الطرفين في شهر يونيو عام 2008، ولكنها لم تدم طويلاً «سقطت بعد فترة ستة أشهر» بسبب الخروقات الإسرائيليَّة وعدم التزام إسرائيل برفع الحصار عن قطاع غزة، واستهداف ستة مقاتلين من حماس بغارة جوية إسرائيليَّة على غزة، فردّت حماس والجهاد الإسلامي مجتمعين على اغتيالهم بإطلاق حوالي 130 صاروخاً وقذيفة هاون باتجاه جنوب إسرائيل؛ شنَّت إسرائيل على أثر ذلك حملة عسكريَّةً بتاريخ 27 تشرين الأول 2008 أسمتها «الرصاص المسبوك» امتدت لغاية 18 كانون الثاني من العام التالي، وأسفرت عن استشهاد ما يزيد عن 1417 فلسطينياً وجرح قرابة 5500 آخرين، في المقابل اعترفت إسرائيل بمقتل عشرة جنود وثلاثة مدنيين، وبقيت القوات الإسرائيليَّة ماكثة في القطاع لمدة سنة تقريباً، إلى أن وجدت نفسها مكرهةً على الانسحاب في العام 2009 تحت ارتفاع وتيرة العمليَّات العسكريَّة التي استهدفت قواتها المنتشرة هناك.
لم تشبع آلة القتل الإسرائيليَّة بارتكابها مئات العمليات الإرهابيَّة التي استهدفت قادة حماس السياسيين وكوادرها العسكريين الميدانيين منذ تسعينات القرن الماضي، بدءاً باغتيال عماد حسن عقل، مروراً بيحيى عياش، وجمال منصور وجمال سليم، ومحمود أبو هنود وصلاح شحادة وإسماعيل أبو شنب والشيخ أحمد ياسين «مؤسس الحركة»، ومن بعده عبد العزيز الرنتيسي، وعدنان الغول، وسعيد صيام، وانتهاءً باغتيال ثلاثة من قادتها العسكريين دفعة واحدة هم: محمد أبو شمالة ومحمد برهوم ورائد العطار «عضو المجلس العسكري لكتائب القسام» رغم تسببها قبل ذلك بفترة وجيزة بحرب بينها وبين حماس على أثر اغتيالها لأحمد الجعبري بتاريخ 14 تشرين الثاني عام 2012، حيث ردَّت حماس على العملية بإطلاق زخَّات من الصواريخ على إسرائيل التي قابلتها بضربات جويَّة مكثَّفة لمدة 8 أيام.
لقد حظي قطاع غزَة بعد العام 2012 بشيء من الهدوء النِّسبي لمدة عام تقريباً، رغم إمعان الكيان الإسرائيلي في التَّضييق الاقتصادي على القاطنين فيه، إلَّا أن ذلك تزامن مع تضييق آخر لا يقلّ أهمية عنه، تمثَّل في هدم مصر لمعظم أنفاق التهريب التي كانت تصل غزة بسيناء، ما حرم منظمة حماس من منافذ الدَّعم اللوجستي الذي كان يصلها عبر تلك الأنفاق، وذلك على أثر انتخاب الرئيس عبد الفتاح السيسي عام 2014، والذي تعامل مع حماس كحليف سابق لخصومه اللدودين «الإخوان المسلمين» إبان فترة تولي الرئيس مرسي زمام الحكم في مصر.
أدّى تشديد الخناق على غزَّة إلى ارتفاع منسوب العنف بين حماس والكيان الإسرائيلي، الأمر الذي تسبب بتفجُّر الوضع عسكريًّا حيث بادرت إسرائيل إلى شن حرب بتاريخ 8 تموز عام 2014 أطلقت عليها مسمى الجرف الصامد دامت لسبعة أسابيع، عجزت خلالها إسرائيل عن تدمير شبكة الأنفاق التي أقامتها حماس داخل القطاع، رغم إطلاقها عملية اجتياح بري ما لبثت أن تراجعت عنها نتيجة ضراوة القتال ما بين قواتها الغازية ومقاتلي حماس، معلنة انسحابها بعد أسبوعين من بدء الهجوم، وانتهي القتال بالإعلان عن اتفاقات مؤقتة لإطلاق النار، ما لبثت أن ثُبِّتت بصورة نهائيَّة بتاريخ 26 أب من العام ذاته؛ ولكنها أسفرت عن مقتل ما يزيد عن 2100 فلسطيني في غزة و73 إسرائيلياً من بينهم 63 عسكريًّا. وبعد ذلك بأربعة سنوات وبالتحديد في شهر آذار عام 2018 اندلعت مجدَّداً أعمال قتالية ما بين إسرائيل وحماس على أثر إقدام إسرائيل على قتل ما يزيد عن 170 مواطناً فلسطينيًّا أثناء مشاركتهم في احتجاجات شعبيَّة لعدَّة أشهر.
لم تقتصر اسباب النزاع بين الكيان الإسرائيلي وحماس على الاعتداءات الإسرائيليَّة في قطاع غزَّة، إنما أدَّى تمادي المستوطنين الإسرائيليين بانتهاكاتهم لحرم المسجد الأقصى خلال شهر رمضان عام 2021، وبتشجيع من بعض المسؤولين الإسرائيليين إلى ارتفاع منسوب التوترات بين قوات الأمن الإسرائيليَّة والفلسطينيين عامَّةً، إلى اندلاع القتال مجدَّداً ما بين حماس وجيش الاحتلال والذي دام أحد عشر يوماً، أطلقت خلالها حماس عدداً كبيراً من الصواريخ أما إسرائيل فبادلتها كعادتها بوابل من الضربات الجويَّة على القطاع أسفرَ القتال عن استشهاد ما لا يقل عن 250 فلسطينيًّا ومقتل ثلاثة عشر إسرائيليًّا. واستمرت حماس بتبنّي تكتيك استهداف المناطق الإسرائيليَّة بالصواريخ كلما تعرض القطاع لاعتداءات أما إسرائيل فتكتيك الهجمات الجويَّة المكثَّفة، وهذا ما اعتمد خلال شهر آب عام 2022 عندما استهدفت إسرائيل أحد قياديي الجهاد الإسلامي، بحيث أطلق ما يقارب الألف صاروخ خلال فترة ثلاثة أيام، وكذلك الأمر خلال شهر يناير عام 2023 على أثر مداهمة قوة من جيش الاحتلال لمخيم للاجئين وقتله سبعة فلسطينيين وكان الرد الإسرائيلي كالمعتاد في كلتا الحالتين شن غارات جويَّة مكثَّفة على غزَّة.
للأسف لم يفقه القادة الإسرائيليون مخاطر تشديد الخناق على الشَّعب الفلسطيني، وأن الإمعان في سياسة القهر والتَّجويع والإذلال تولد انفجاراً شعبيًّا وعسكريًّا، إلى أن فوجئوا بتاريخ السابع من تشرين الأول بعمليَّة طوفان الأقصى، والتي جاءت كنتيجة حتميَّةٍ لتمادي الكيان الغاصب في تغطرسه ورفضه لحل الدَّولتين، ولاعتقاده الخاطئ أن تدمير الأحياء السَّكنيَّة، وإنزال خسائر بشريَّة فادحةٍ في صفوف المدنيين، قد يدفع بالشَّعب الفلسطيني للرضوخ والإستسلام؛ في ظِلِّ تقاعس معظم النُّظم العربيَّة عن نصرة حماس لانضوائها تحت المظلَّة الإيرانيَّة، وقد تعزَّز هذا الشعور لدى القادة الإسرائيليين بعد نجاحهم في مساعي التَّطبيع مع بعض الدُّول العربيَّة، والتي لقيت أرضاً خصبة على أنقاض الخلافات العربيَّة - الإيرانيَّة، وهذا ما يُبرِّرُ توجهاتهم للسير قدماً بحربهم الحاليَّة ظنًّا منهم أنهم قادرون على القضاء على حماس بشل قدراتها العسكريَّة وتهجير سكان قطاع غزَّة باعتمادِهِم سياسة الأرض المَحروقة، في ظل الواقع العربي المفكك، والدعم الغربي غير المسبوق لهم وتغافل منظَّمة الأمم المتحدة عن تلك انتهاكاتهم الهمجيَّة وتقاعس مجلس الأمن عن القيام بأدنى واجباته في لجم اعتداءاتهم.
ويبدو أن عملية طوفان الأقصى رغم مدلولاتها السياسيَّة والعسكريَّة وأبعادها الاستراتيجيَّة لم تنبّه القادة الإسرائيليين لمغبَّة المضي قدماً في تعنّتهم وصلفهم، وهذا ما يفسِّره إصرارُهم على المضي قدماً بسياساتهم العنصريَّة الاستعماريَّة التَّوسعيَّة المبنيَّة على القمع والتنكيل، وارتكاب أبشع الجرائم، والتي لم تنجح في محو هواجس طوفان الأقصى من ذاكرة معظم الإسرائيليين، والتي ستولِّد لديهم شعوراً مستداماً بعدم الإطمئنان، ستدفعهم عاجلاً أم آجلاً للتَّفكير مليًّا بهجرةٍ معاكسةٍ إلى حيث أتوا. وعليه لم يعد أمام حكَّام إسرائيل سوى الاحتكام للعقل والسير بحل الدَّولتين استجابة للمبادرة العربيَّة السلميَّة قبل فوات الأوان، وإلَّا ستبقى منطقة الشرق الأوسطِ بأسرها تتخبَّطُ في دوَّامة من العنف، وسيحكمون على كيانهم العنصري بالزَّوال.