الإعلاميّ بسام برّاك
كنتُ يافعا يوم مات عاصي... لم أعِ كيف كان يكفي لفظُ اسمِه من دون مقدِّمات وألقاب ليلتمَّ الآلافُ في مسيرةِ وداعه... ولم أفهم لماذا بكى الوطنُ وحزنتِ الجمهوريّة وسار لبنانُ كلُّه صوب أنطلياس. كنتُ لم أدرك مَن هو راجح الكذبة، ولماذا فتكَ بالناسِ فاتك، وقُطعتِ الطرقُ ليعبرَ الشخص. كنت سمعتُ صوتَ فيروز، ولم أرَها بعد .
وبعدما قرأتُ تاريخك ومرَّت أربعٌ وثلاثون سنة على ذلك اليوم، أسألك أن تشاركنا يومًا من أيامنا الناقصة من دونك... فإن كانت روحُك فوق - فوق حيث يقف الزمان، وإن كنتَ ترى البيوتَ الواطئة والأرصفة الموشّحة بورق الخريف وزهر الليمون وحَب اللوز، أسألك أن لا تتأخّر عن أن تتناولَ البزق من بيتك الزمني وتمرّرَ أصابعَك على أوتاره الساكتة لتلدَ للحال أغنية لها رائحةٌ ولونٌ واسمٌ وبلَد..
عاصي، أيّها الساكن العالي، ليتني يومَ رحيلِك كنتُ أبًا لولدٍ، لَبدّلتُ اسمَه إلى "شادي"، لَكُنتُ تركتُه يلعب مع "يارا" ويصغي إلى سكون "وطى الدوّار"...
لو أنّني أعرفُ أنّ عاصي آخرَ مثلك يقطن في وطن، في سماء، في نجم، لَصَلّيتُ إلى الله كي يغدقَه علينا. لكنّني واثقٌ من أنّك لا تتكرّر، لأنّك لا تشبه لبنان الممِلّ بشعاراته، ولا الزعماء المشبوهين بالزعامة، أولئك من يَنتحرون بلادي وهي تناديهم" أريد الحياة"!
عاصي أنت أقربُ منّا اليوم إلى شمس المساكين... فَقُل له باسمنا نحن المثقّفين كلمةً ووطنيّة، نحن الكنّاسين والبيّاعين والمزارعين والحاصدين والجائعين والمقهورين... قل له أن ينشرَ عطرَ "عطر الليل" ويوزّع زاد "زاد الخير" علينا بالتساوي. قل له نريدُ "فخر الدين الثاني" ثانيةً ليعمّر الوطن والإنسان، واذا اضطُرَّه الأمر يتنحّى عن الوطن ليبقى لبنان لا كرسيّه. ولا نريدُ شبحَ الوالي غيبون بغبائه وتعاستِه كي لا نرحلَ تاركين البيوت ل"ناطورة مفاتيح" ربّما لن نجدَها..
منذ ثلاثة عقود وما يزيد ونحن نكبر لنغيب، وأنت تروح لتحضُرَ أكثر وتقفَ مع ريح الشمال في محطة الورق تحت زيحِ النحل... ومن خيال قامتك ترفرف عصفورة الشمس.
وأتساءَل، هل توقّفتْ ذاكرتُك حيث انتهى عمرُك، أم انّك تكتب من بعيد جملةً أخرى بلحن آخرَ لصوتٍ واحدٍ وحيد ، لا آخَر له ولسيّدته، لامرأةٍ هي صوتٌ لم يفارقك بل يصبِّحك كل يوم لكثرة سماويّتِه، لكثرة فيروزِه؟
اليومَ بتُّ أدرك لماذا بكى لبنانُ من عينيه الخضراوينِ في الحادي والعشرين من حزيران، ومسحت فيروزُ عينيها بالدمع، وتحوَّلتِ الجمهوريَّة إلى موكب في جنازتك.وكأنَّك الوطنُ نودِّعه.
فيا ليتك تعيد الزمن إلى الخلف.على الأقل لتعود المسارح وتُضاء بعصا قيادتك، كي لا تبقى عن بُعد مثل قراءة أسمّيها اليوم "وَرَقميَّة"... ربما يخجلون منك في عصر فتح المطاعم بلا تخوُّف من جائحاتنا وختم لغة الثقافة بشمع الكورونا خوفًا من العدوى، وفي غياب الوزارة المعنية.
ليتك تعيد الزمن لنرجعَ نحن صغارًا، نلعب الغمّيضة ..نلعب لعبة أولاد الحرب، ونسرق القناديلَ ونكسرها، ونطيّر الورق فلا يضيع منّا أحد، ونرمي ختم الدولة في الماء فلا تغرق الدولة كما يُغرقونها اليوم بأختامهم ،و لا يموت، ولا ينقصُ واحد منا..
عاصي... إن عُدتَ بالتراب إلى الخلف فلا تَتوانَ عن أن تخبرَنا: كيف نلعب تلك اللعبة؟
وكيفما رحنا نعود إليك ويقودنا صوت فيروز صوبك..
يا ساكنَ العالي!