جوزف القصيفي
الوحدة الوطنية ليست شعارا يطلق في المناسبات، ولا لغة خشبية، كما يحلو لبعض الذين يدعون الواقعية السياسية اعتبارها، وكأن لا وجود للقيم الجامعة التي تشد اللبنانيين بعضا إلى بعض. اذ كيف يمكن أن نصون وطننا وندرأ عنه الاخطار في الازمنة التي تبرز فيها وكأنها القضاء والقدر. فما من عاقل يغامر بمصير وطنه إذا كانت الخلافات السياسية الداخلية تتقدم على اي استحقاق وجودي. ولماذا الحوار إذا لم يكن هو الوسيلة التي تفتح الطريق واسعا أمام تفاهمات كبرى تصون لبنان من التفكك والتشرذم؟ هذا الكلام ليس شعرا، أو ترفا نظريا . فالامم تتهاوى في ظل استشراء الخلافات الداخلية، والانقسامات العميقة،ولا سبيل للخروج من ازماتها إلا بالعودة إلى المشتركات التي تبقى اساس الوحدة الضامنة لحياة الأوطان واستمرارها. وفي لبنان الكثير من المشتركات التي يمكن البناء عليها. وهي في اي حال البديل عن منطق" المتاريس" النفسية القائمة على الحذر من آلاخر والارتياب منه." إذا راح الوطن ،ما في وطن غيرو". لبنان ليس حقيبة سفر نوضبها ونحملها في طواف لا ينتهي إلى بلدان العالم بعيدها وقريبها. إن إسرائيل فرضت في قلب هذا الشرق بقرار دولي، فزعزعت اركانه، وزرعت فيه " سوسة" اللاستقرار، وأعادت إنتاج العصبيات لا على قاعدة الانقسام الديني فحسب، بل المذهبي الذي كان للصهيونية اليد الأولى في إيقاظه من نومة " أهل الكهف"، من دون إغفال الاتنيات التي استفاقت بفعل هذه " السوسة" التي نشطت مع تصاعد غبار المواجهة في عالم تتصارع فيه آلالهة التي انقسم من حولها الناس. رحم الله أبا العلاء المعري الذي قال يوما" ...كل يعزز دينه، لا ليت شعري ما الصحيح؟". فباي حق يباد شعب إرتأى " بلفور " في وعده سلبه حقه الطبيعي على قاعدة " أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". ومن قال ألا مكان لفلسطين على خريطة العالم، وهي حقيقة تاريخية ثابتة، مهما إجتهد المؤرخون الصهاينة من يهود وغير يهود لإظهار العكس. لم تجزم الدراسات أن الاقصى شيد على انقاض هيكل سليمان. وقد بلغ الصهاينة من العتو مبلغا غير مسبوق بانكارهم أن فلسطين هي لابنائها من اتباع الديانات السماوية. ولذلك رفضوا فكرة الدولة الديموقراطية القادرة على جمعهم على أرضها في نظام يوفر لها اسباب العيش معا، والتفاعل في إطار قيم روحية واجتماعية، على قاعدة المصلحة المشتركة. وهم رفضوا ويرفضون حل الدولتين، بل إعطاء الفلسطينيين الحقوق الانسانية البديهية. وفي العام 1948 كان " الترانسفير" الأول الذي ارغم مئات الالاف من هؤلاء على النزوح إلى لبنان والاردن وسوريا وسائر بلدان الشتات. وفي العام 1967 وعلى أثر حرب " الايام الستة"، نزحت أعداد كبيرة من الفلسطينيين الى الاردن. وفي العام 1970 وبعد ألاحداث التي وقعت في الأردن، كان نصيب لبنان وسوريا عشرات آلالاف منهم. وقد دفع وطن الارز غاليا ثمن هذا " الترانسفير"بدءا من العام 1975، وما تلاه. واليوم يستغل الكيان الصهيوني عملية " طوفان ألاقصى"، للقيام من جديد بمحاولة فرض سياسة " الترانسفير" من خلال حرب الابادة التي يشنها ضد غزه، حتى إذا أعطت ثمارها، انقلب إلى الضفة الغربية ومناطق 1948، ليشرع في خطة مماثلة ترمي إلى إقتلاع الفلسطينيين منها في سياسة تطهير عرقي تمهد الطريق لإعلان إسرائيل دولة يهودية صرف، لا وجود فيها للتنوع. ولكن المصلحة العليا لكل من مصر والاردن تتنافى تماما مع هذا التنوع ، وهو ما يحبط " الحلم الصهيوني" بدولة ذات طابع ديني أحادي. إن هذه الحقائق ينبغي أن يعيها اللبنانيون على إختلاف انتماءاتهم الدينية والسياسية،لأن ذلك يعني من دون شك أن حق العودة الذي كرسه القرار الأممي 194/48 سيسقط تلقائيا وأن التوطين الواقعي الذي رفضه الدستور اللبناني سيصبح قانونيا. وكيف للبنان الذي ينؤ حاليا بمليونين ونصف المليون نازح سوري، أن يتحمل تداعياته. لأن هناك خطرا داهما ودائما سيفرض عليه أن يكون وطنا للنازحين، فيما يتحول ابناؤه إلى ضيوف في أرضهم،أو يتفرقون ايدي سبأ في بلاد الله الواسعة. من هنا ، فإن مقاومة هذا التوجه الصهيوني هي فرض عين وواجب على ابنائه الذين يتعين عليهم إدراك أبعاد هذا الخطر الاستراتيجي وسلبياته المطلقة. ولست أجد افضل من التحصن بالوحدة الوطنية المركوزة في وعي تام لخطورة هذه الخطة وآثارها المدمرة على كياننا الوطني. وفي ما عدا ذلك من التفاصيل. لم يخطيء إلامام موسى ألصدر عندما قال:" إن إسرائيل هي شر مطلق". وحده الموقف الوطني الموحد هو ما ينقذ لبنان ،ويكرس هويته بلدا للرسالة، لا رقعة جغرافية تعيش فيها أقوام لا يربط بينها سوى انها تعيش على ارض واحدة، وكأنه قطار يضم ركابا يمضي بهم، كل إلى سبيله. من هنا،فإن المسألة أعمق من المراهنة هل إذا كانت إسرائيل ستشن حربا لا تبقي ولا تذر على لبنان، أو أن ثمة فئة في الداخل تريد استدراجها إلى الحرب، أو أن هناك مجموعة تريد تحييد وطن الارز وكأنه في جزيرة معزولة عن محيطه. إن الوضع اكثر تعقيدا، والمعركة المنتظرة ليست تكتيكية، إنما تتعلق برسم خرائط جديدة للمنطقة، وقد لا يكون لبنان بمنجاة عنها، ولو استطاع تلافيها بتحييد نفسه. من هنا ليس متاحا لنا إلا الحوار العميق بين المكونات اللبنانية، وبعث الوحدة الوطنية وبلورتها في تفاهم واسع لتجديد الإيمان بالوطن الذي يتداعى أمامنا، فيما نحن نعمه في خلافاتنا.
|
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp)
اضغط هنا