قامت أذربيجان، قبل ثلاث سنوات، بتنفيذ عملية عسكرية واسعة في إقليم ناغورنو كاراباخ، وتمكنت من تحرير مناطق كانت تسيطر القوات الأرمينية عليها منذ ثلاثة عقود، وأجبرت يريفان على الرضوخ لوقف إطلاق النار والاعتراف رسمياً بكاراباخ جزءاً من الأراضي الأذربيجانية.
وعلى الرغم من أن اتفاق وقف إطلاق النار وقتها لم ينهي الصراع على الإقليم، إلا أنه شكل نقطة انطلاق لتحوّلات جيوسياسية كبيرة في منطقة جنوب القوقاز. وبعد مرور ثلاث سنوات على العملية العسكرية المذكورة، أفضى التقدّم الجديد الذي حققته باكو في هجومها الخاطف والمباغت على الانفصاليين في أيلول المنصرم، إلى إجبارهم على التفاوض معها لتسليم سلاحهم وإعادة ضم الإقليم إلى أذربيجان، مما أدّى إلى تعميق التبدلات الجيوسياسية في المنطقة.
ويمكن اعتبار مشروع فتح ممرّ "زنغزور" البرّي الذي سيربط أذربيجان بإقليم "ناخيتشيفان" وتركيا، حاسماً في طموحات الأتراك لإيجاد خط يربطهم بدول "منظمة الدول التركية". إلا أن نجاح هذا المشروع لا يزال مرتبطاً باتفاق سلام بين أذربيجان وأرمينيا، في الوقت الذي يُعتبر "النصر" الجديد كما سمّاه الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف، فرض واقع جديد في المنطقة، قد يحول دون إزاحة البعض عن المشهد القوقازي أو ترفيعهم إلى رتبة "سلطان".
التطبيع التركي – الأرميني.. آت لا محال!
إن التدخل التركي في الصراع على كارباخ، قد يجعل التطبيع بين تركيا وأرمينيا أقرب من أي وقت مضى، على عكس ما يعتقده البعض، في وقت استثمرت فيه أنقرة دعمها العسكري لباكو في الحرب الثانية للضغط على يريفان، بغية الانفتاح على التطبيع معها. فتركيا اليوم تستخدم تأثيرها على باكو وعلاقتها مع روسيا لطرح نفسها داعمة لإنهاء العداء بين أذربيجان وأرمينيا وجعل جنوب القوقاز منطقة آمنة ومستقرّة. فالتطبيع التركي الأرميني إن حصل، لا يساعد أنقرة في تقوية موقفها الجيوسياسي الجديد في جنوب القوقاز وحسب، بل يساعدها أيضاً في دفع أرمينيا باتجاه تقليص اعتمادها على "الأم الحنونة" روسيا والتي كانت صارمة في الاحداث الأخيرة، وحثها على إعادة النظر في مكتسبات التطبيع خصوصاً فيما يتعلّق بمشاريع النقل والمواصلات التي تمر من أرمينيا، والتي تطمح تركيا في تحقيقها بأسرع وقت.
أين إيران من أحداث كاراباخ؟
سلب صراع كاراباخ الأخير من إيران الدور الرئيسي في الأحداث المستجدة في المنطقة. وإلى جانب مخاطر التهميش الجيوسياسي، يزيد هذا التحول من ضعف قدرة إيران على مقاومة النفوذ التركي في جنوب القوقاز وآسيا الوسطى، خصوصاً أن أعيُن إيران شاخصة غرباً باتجاه الشرق الأوسط والجزيرة العربية.
ويشكل هذا تحدياً آخر يتمثل في العلاقات الوطيدة بين أذربيجان وإسرائيل، حيث تستورد الأخيرة حوالي 40% من نفطها الخام من أذربيجان التي بدورها تعتمد بشكل كبير على إسرائيل؛ "شريكتها" العسكرية الأساسية. أضف إلى ذلك الشراكة المتنامية بين تركيا وروسيا في جنوب القوقاز التي من شأنها أن تقلص الدور الجيوسياسي لإيران في المنطقة. مع ذلك، لا يزال إشراك إيران في أي معادلة جديدة أمر حتمي وضروري لإنجاح أي مسعى قادم إن كان على مستوى اتفاقية سلام بين أذربيجان وأرمينيا أو على مستوى تنفيذ مشروع ممر "زنغزور"، على الرغم من معارضتها للممرّ.
تظهر إيران كلاعب مرن، يمكنها مجاراة التطوّرات بالحد الأدنى وبأقل أضرار ممكنة، إذ اعترفت الخارجية الإيرانية بسيادة أذربيجان على إقليم كاراباخ معاكسة بذلك رغبة أرمينيا، لتفادي أي معارضة داخلية من الإيرانيين من أصول أذارية والبالغ عددهم حوالي 15 مليون وفق ما أورده تقرير للـ"الجزيرة"، ويعتبر ذلك أيضاً، محاولة من الجانب الإيراني للبقاء على مسافة آمنة من الجميع عبر عدم الانخراط مباشرة بالصراع الأرميني - الأذربيجاني.
يمكن قراءة الموقف الإيراني على أنه مسعى من طهران للمحافظة على ما تبقى لها من نفوذ محدود في جنوب القوقاز مع تعاظم الدور التركي المدعوم بنفوذ روسي واسع، فضلاً عن عدم رغبتها بفصل حدودها مع أرمينيا بفعل مرور خط "زنغزور". لذا من هنا نقول إن تقاطع مصالح تركيا وروسيا من جهة وإيران التي تحاول تجنّب الأرق الذي قد يحدثه كارابخ، يمكن أن يؤدي إلى ولادة "قوقاز جديد" مستقرّ، قوامه التطبيع بين تركيا وأرمينيا التي لن يكون أمامها سوى خيار تصفية النيات والنوايا مع أذربيجان وتركيا وإلا سوف تواجه خطر العزلة، ولن تقوم روسيا ولا إيران برمي طوق نجاة هذه المرّة لمساعدتها.
روسيا تعاقب أرمينيا
مع محاولة أرمينيا النأي بنفسها عن دعم الانفصاليين، سعت روسيا إلى التوصّل إلى حل جذري لملف كاراباخ، يقوم على حق أذربيجان في فرض سيادتها على الإقليم، فإن قدرة يريفان وطهران على تقويض مشاريع النقل والمواصلات في المنطقة أصبحت شبه معدومة.
ولعلّ التصدّع الأكبر الذي أظهرته الحرب الأخيرة، يتمثل بصفعة روسيا لأرمينيا حليفتها التاريخية، وهذه مجرّد صفعة لتلقينها درساً بعد استشعار موسكو بجدّية رغبة توجه يريفان نحو الاتحاد الاوروبي. في حين، التحالف الدفاعي بين البلدين شكّل عائقاً كبيراً أمام أذربيجان لعكس موازين الصراع على كاراباخ لصالحها في العقود الثلاثة الماضية، فإن سياسة رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان التوّاقة إلى تعزيز العلاقات مع الغرب، منذ وصوله إلى السلطة في 2018، والتشكيك بجدوى التحالف مع روسيا، شكل عاملا أساسياً دفع موسكو إلى العدول عن دعمها الكامل لأرمينيا وتغيير مقاربتها للصراع في كاراباخ وتبنّي موقف يتماهى، مع مطالب أذربيجان.
من غير المرجح أن تضحي روسيا بتحالفها مع أرمينيا، ودفعها إلى الابتعاد عنها والاقتراب من الغرب، لكنها تستخدم مقاربتها الجديدة لملف الإقليم وسيلة لمعاقبة وليّ ذراع باشينيان على ميوله الغربية. والأكيد أن الوضع الجيوسياسي الجديد في جنوب القوقاز، يغيّر بشكل جذري، من وظيفة التحالف الدفاعي بين روسيا وأرمينيا من تحالف كان يهدف إلى تثبيت الوضع في كاراباخ، إلى تحالف يضغط على يريفان، للانخراط في المعادلة الجديدة في جنوب القوقاز.