طوني عيسى - الجمهورية
«لبنان هو اليوم في عنق الزجاجة. وهو باقٍ كذلك حتى إشعار آخر، أو حتى تظهر ملامح «الستاتيكو» الجديد في الشرق الأوسط. فلا حلول منتظرة للبنان، إلا بالترابط مع حلول أخرى تعني جيرانه الأقربين والأبعدين». هذا هو الاستنتاج الأكثر تداولاً في المحافل الدولية المعنية بالملف اللبناني.
هناك 3 ألغام كبرى تهدّد بتفجير لبنان أو بتكريس واقعه المأزوم إلى أمد غير محدّد، وهي:
1 - الانهيار الاقتصادي والمالي والنقدي واحتمال تفاقم حال الفقر والجوع. وهذا اللغم لا يحتاج إلى إشعال، بل هو مشتعل فعلاً منذ 4 سنوات على الأقل، عندما وقع الانهيار الكبير، وتهاوت صورة لبنان التقليدية، كضمانة في المجال المالي والمصرفي. هذه الصورة التي نجحت خلال الأزمة المالية العالمية، بين العامين 2007 و2008، في جذب الكثير من المستثمرين إلى قطاعه المصرفي، لا سيما أولئك الذين تأثروا بالتراجعات التي شهدتها دول النفط العربية.
وقد بدأت هذه الصورة تتعرض للضرب تدريجاً، بين العامين 2016 و2018، ثم تعرضت للنسف تماماً منذ العام 2019، عندما عصفت بلبنان إحدى أخطر الأزمات المالية العالمية منذ 100 عام.
واليوم، يرزح لبنان بلا أفق تحت وطأة هذه الكارثة، بمفاعيلها الاقتصادية والاجتماعية الثقيلة. ومن الواضح أن المجتمع الدولي لا يتدخل لمساعدته، وكذلك عرب النفط الذين لطالما شكلوا الرافد الأساسي لاقتصاده.
2 - مأزق النازحين السوريين (والفلسطينيين بدرجة ثانية). فقد دخل إلى لبنان، حتى اليوم، قرابة المليونين ونصف المليون سوري، بين لاجئ ومقيم وعامل، فيما هناك ما يقارب النصف مليون فلسطيني. وإزاء الفشل التام في وقف تدفق النازحين، ربما في غضون أشهر بل سنوات مقبلة، يصبح ممكناً التخوف من تحوّل لبنان، بلد الـ5 ملايين نسمة الذين تقضّ الهجرة مضاجعهم، بلداً للنازحين أولاً، فيما تضيق السبل بمن بقي من أبنائه.
وعلى الأرجح، سيؤدي هذا الاختلال الحاد في التوازنات الديموغرافية في بلد الـ10452 كيلومتراً مربعاً إلى انفجاره وتغيير هويته نهائياً.
3 - في ظل تمزق المؤسسات وفراغها وشللها، لا يمكن الركون إلى مستقبل لبنان السياسي، وتالياً الأمني. وهنا يبرز خطران داهمان:
الفتنة الطائفية أو المذهبية التي كادت ان تطل بأشباحها مراراً من حوادث خطرة في مناطق مختلفة، خلال الأشهر والسنوات الأخيرة.
تحرُّك المجموعات والخلايا الإرهابية النائمة، في العديد من المناطق، والتي يمكن أن تستغل نقاط الضعف الأربع: فوضى النازحين، تفاقم حال الفقر والجوع، التناحر السياسي والطائفي والمذهبي بين الفئات اللبنانية، والثغرات التي تعتري عمل مؤسسات الدولة، ومنها العسكرية والأمنية.
في مواجهة هذه الألغام الثلاثة، يبدو لبنان عاجزاً تماماً لسببين: الأول هو الاهتراء الكامل للوضع الداخلي، وسط تنازع القوى السياسية والطائفية، وفشل منظومة السلطة. والثاني هو وجود إرادة خارجية لإبقاء لبنان في هذا الوضع الضعيف، لكي يسهل إجباره على الدخول في خيارات سياسية معينة.
لذلك، يمكن القول إن المنظومة السياسية في لبنان هيّأت كل الأسباب لوقوع الانهيار، لكن القوى الخارجية استثمرت في هذا الفساد لتمرّر مخططات سياسية إقليمية تريد أن يكون لبنان جزءاً منها.
وللتذكير، إن هذه القوى الخارجية، الدولية والعربية، كانت تدعم دائماً قوى السلطة الحالية، وتبارك استمرارها وتمدها بالمساعدات بلا رقابة، على رغم إدراكها الكامل أن هذه المنظومة فاسدة، وأن أموال الدولة والشعب تتعرض للنهب المنظم. وقبل 5 سنوات، أي غداة مؤتمر «سيدر»، أوقفت هذه القوى الدولية دعمها للمنظومة وللدولة اللبنانية في شكل مفاجئ، في توقيت مدروس وظروف محلية ودولية محددة.
وفي تقدير بعض المطلعين أن هذا التوقيت كان مدروساً بعناية، بهدف دفع لبنان إلى الانهيار، لأن ذلك هو السبيل الأفضل لدفعه إلى الرضوخ لمستتبعات التسوية المطلوب تحضيرها في الشرق الأوسط.
وأبرز علامات هذه التسوية في لبنان توقيع اتفاق الترسيم بحراً مع إسرائيل، بموافقة من إيران، وتمهيد الأجواء لمفاوضات الترسيم براً، فيما المنطقة كلها منشغلة بمساعي التطبيع المتعددة الأقطاب: إسرائيل، إيران، العرب والولايات المتحدة.
لذلك، ستبقى نهاية الانهيار اللبناني محكومة بانتهاء الصراع الإقليمي المتشابك، خصوصاً أن القوى السياسية المحلية اعتادت أن تجعل من لبنان بلداً مشلول الإرادة وفاقد القرار، وكياناً ضعيفاً يقرر في شأنه الأقوياء على الطاولة في الشرق الأوسط. ولطالما انتظر لبنان، ولا يزال، أن تتوافق القوى الخارجية على تعيين رئيس الجمهورية فيه، وعلى برنامج الحكومة، والكثير من سياساته الداخلية والخارجية.
وفي الترجمة العملانية، لن يتمكن لبنان من حل أزمته الحالية بوجوهها السياسية والاقتصادية والأمنية، ولن يحصل على سلامه الداخلي، إلا بعد إنجاز التسويات الجاري تحضيرها للمنطقة.
أي، لا غاز ولا نفط سيجري اكتشافهما واستخراجهما وبيعهما في لبنان، ولا مساعدات ولا إنقاذ اقتصادياً إلا إذا مشى اللبنانيون، «بالصف»، في المسار الذي سيتم التوافق عليه بين ذوي القرار إقليمياً ودولياً، ولا سيما إسرائيل وإيران والولايات المتحدة.
ثمة من يصف سلوك هذه القوى تجاه لبنان بأنه عملية ابتزاز. وهذا صحيح. ولكن، في الواقع، القادة اللبنانيون انفسهم ارتضوا هذا الابتزاز منذ الاستقلال وحتى اليوم. وكل التسويات التي شهدها لبنان على مدى نصف قرن لم تكن من صنع اللبنانيين، بل وصلت إليهم مطبوخة جاهزة. وكذلك، ستكون التسوية المقبلة، عندما يحين موعدها، علماً أن هذا الموعد يبدو في عالم الغيب حتى الآن.