جورج شاهين - الجمهورية
على وَقع مجموعة الاستراتيجيات المتشابكة من الاستحقاق الرئاسي، أجمعت مراجع سياسية وديبلوماسية على اعتبار ان عملية «اللقلقة» مستمرة. طالما ان اصحابها لم يحتسبوا بعد مدى التحلل الذي أصاب الدولة ومؤسساتها وقد عجزوا عن القيام بما يؤدي الى إنتاج الرئيس الذي يجمع من جديد ويصوّب المسار نحو التعافي والإنقاذ. وعليه، هل يمكن الرهان على مهمة الموفد الرئاسي الفرنسي في زيارته الرابعة بعدما جمد أيّ حراك آخر؟
ما لا يرقى اليه الشك انّ مختلف المبادرات الداخلية للخروج من مأزق الاستحقاق الرئاسي قد دخلت الثلاجات الاقليمة، عدا عن تلك التي فقدت بريقها فانتهت قبل ان يجف حبرها، او تلك المؤجلة الى مواعيد لا تزال مفقودة او غامضة على الاقل. واذا قيل انّ ما قاد الى هذه المرحلة من الشلل مرده إلى التمديد الذي حظيت به مهمة الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان في مسعاه، فإن هناك اسبابا اخرى حالت دون اكتمال ايّ منها فتساوى منطقي العجز والفشل الذي أصاب أصحاب العديد من المبادرات التي تهاوت واحدة بعد أخرى منذ عام تقريبا. فلا يجب ان ينسى أحد ان مرحلة خلو سدة الرئاسة من شاغلها قد تجاوز الأشهر العشرة وتسعة عشر يوما بعدما تجاوزت المهل الدستورية التي قالت بآلية انتخاب الرئيس عاما كاملا وتسعة عشر يوما.
ليس من المفيد التوقف أمام المهل الدستورية التي عبرت والفرص الذهبية التي ضاعت بقدر ما باتت الحاجة الى تقويم المرحلة بحثا عن الأسباب التي أدت الى تعطيل كل المحاولات التي جرت من اجل العبور بهذا الاستحقاق، في وقت تعيش فيه المنطقة مرحلة خطيرة من المشاريع المتضاربة التي جنّدت لها القدرات السياسية والاقتصادية والعسكرية الهائلة، ولا يجب ان يبقى لبنان معلّقاً على حبال الازمة بما لا يؤدي الى استعادة حضوره بين المجموعتين العربية والاممية ليحظى بما له من حقوق عند اعادة رسم الخرائط الجديدة للمنطقة ووقف استخدامه ميدانا للنزاعات ومساحة ملحقة بالساحات المتفجرة فيها.
وانطلاقاً مما تقدم، تعترف مراجع سياسية وديبلوماسية أنه، وفي مواجهة سقوط كل المبادرات الداخلية التي أطاحت بها المناكفات السياسية، لم تنجح اي مبادرة خارجية بعد في دفع اللبنانيين الى التفاهم على كيفية الخروج من مسلسل الأزمات. وهي أزمات تفاعلت على مراحل كان يمكن ترقّب نتائجها الخطيرة لو لم تفشل المنظومة من العبور بأيّ استحقاق دستوري الى مآله الاخير، منذ ان عجزت عن تشكيل حكومة جديدة بكامل المواصفات الدستورية منذ الانتخابات النيابية في 15 ايار 2022. والأخطر ان كل ما جرى كان مخططاً له ولأسباب مختلفة قادت إليها المصالح الضيقة والإستراتيجيات القصيرة المدى، وصولا الى العجز عن انتخاب رئيس للجمهورية على الرغم من غرق البلاد في أسوأ أزمة مالية ونقدية لم تعرفها أي دولة في العالم.
على هذه الخلفيات، يبدو لهذه المراجع انّ المجموعة الدولية الخماسية الجديدة تترصد المخاطر المقبلة على البلاد من دون ان تقدم على اي خطوة «زاجرة» يمكن ان تقود اللبنانيين الى اي خطوة تتجاوز المعالجات الموضعية والمحدودة التي حالت دون الإنهيار الكبير المؤجّل حصوله الى اللحظة التي تفتقد فيها الرعاية الدولية قبل «الطحشة الفرنسية» التي ما زالت تقاوم العقبات الداخلية والخارجية.
وبناء على ما تقدم، فإنّ التوقف هو أمام ما انتهت إليه مهمة لودريان في جولتها الثالثة والتي أعادته الى ما كان مطروحا منذ بداية المهمة وفي فترة تلت ولادة «اللقاء الباريسي الخماسي» في شباط الماضي. وهي ان لم تحقق ما أُريد لها، فقد أدت في ما بلغته الى فرملة سلسلة من المبادرات الاخرى بانتظار مصيرها. ولعل أبرز ما ادت اليه هو التريّث بتوجيه الدعوة الى طاولة «حوار الأيام السبعة» التي أعلن عنها رئيس مجلس النواب نبيه بري والحديث عن تأخير وصول المبعوث القطري الى بيروت من اليوم وحتى عودة لودريان لمعرفة اتجاه الريح التي سيقودها، رغم الاعتراف المسبق بأن هذه العودة غير مضمونة النتائج، وهي وإن انعكست على طاولة الحوار، فإنها لن توقف الحراك القطري وان أرجَأته لبعض الوقت.
وعليه: تتحدث المراجع النيابية عن جدل لم ينته بعد حول كيفية ترجمة مبادرة بري ونصيبها من الإنعقاد، وقد حالت اسباب متعددة من دون تنفيذها. فالنصاب النيابي المرغوب به على الطاولة لم يكتمل بعد ولو بحده الادنى. وان الإحصائيات التي أجرتها دوائر المجلس النيابي أصيبت امس بنكسة قد تحول دون انعقادها بمعزل عن مهمة لودريان. فمواقف رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل التي اطلقها أمس الأول الاحد استدرجت اوساط عين التينة الى ردة فعل فورية عبّر من خلالها بري عن امكانية معالجتها. فهو من سيترأس طاولة الحوار متراجعا عن مواقفه السابقة، وقد حجز كرسيا إضافيا لنائبه الياس بوصعب الذي نال نصيبه من الاعتراض العوني ان كان سيتولى هذه المهمة.
ولم يكتف بري بهذا التوضيح فلفت الى ان ما قصده بالدعوة الى «جلسات مفتوحة» سيترجمها بـ»جلسة مفتوحة وبدورات متتالية حتى انتخاب الرئيس، على طريقة انتخاب بابا روما». إلا ان ما كان لافتاً هو انّ بري لم يربط موعد انعقادها بمهمة لودريان منتظراً عودته فحسب، لربما «جاء القطريون الى لبنان بطرحٍ ما». موحياً الى انه، وبالاضافة الى حرصه على «مشاركة الجميع في هذه المرحلة الحساسة» راهنَ للمرة الاولى على احتمال «مشاركة الجميع ليكون الحوار منتجاً ومثمراً»، داعياً الى انتظار تلك اللحظة لتحدد «القوى مواقفها النهائية ليبني على الشيء مقتضاه».
ليس ضرورياً التذكير بأنه وعندما يتحدث الرئيس بري مباشرة تسقط مفاعيل المواقف والتسريبات التي تنسب لمصادر نيابية او تلك التي تتحدث باسم «الثنائي الشيعي». وعليه، بُني على موقفه امس الكثير مما يحتمل حصوله. فقد بات واضحا ان لا «طاولة حوار» في وقت قريب قبل ان تعبر محطات أخرى. وإن كان الحديث يتركز على مهمة لورديان فإنّ الساعات المقبلة ستكشف ما بقي غامضا حتى اليوم، وبانتظار معرفة حجم التحرك القطري المرتقب تتوقف أمور إضافية أخرى تتجاوز المعادلات القائمة اليوم.
وعليه، فإنّ الحديث عن سقوط المواجهة بين الوزيرين سليمان فرنجية وجهاد أزعور الى غير رجعة ما زال يخضع للتشكيك المبرر، كما بالنسبة الى العوائق التي تدخل قائد الجيش في المواجهة مع فرنجية او غيره ما زالت على لائحة التوقعات، وأن ما هو ثابت وقائم ان مسيرة «اللقلقة» مستمرة وسيتبارى كثر على شاشات التلفزة من هذا الجانب وذاك مع التثبّت مسبقاً من عدم قناعة البعض بما يطلقه وان كان مقبولا او منطقيا في ظل المخاطر المترتبة على بعض المحطات المالية والنقدية، ليس أقلها كيفية تأمين رواتب القطاع العام عدا عن الضمور المرتقب في الحياة الاقتصادية ان أقرت بعض الرسوم والضرائب الكبيرة التي تشجع على المزيد من التهرب الضريبي. والتي ستُطلق اعمال التهريب مضاعفة على ما هي عليه اليوم، والتي اضافت آلاف النازحين السوريين الى اطنان البضائع والمحروقات المهرّبة لصالح بعض القوى المتحكمة بالنقاط الحدودية خارج اي رقابة امنية او عسكرية.